عصرنا سريع التغير الذي يدفع الكثيرين للجري وراء المادة وجني المال، هو ما يجعل بعض الشركات تتنافس على الفوز بالقلوب والجيوب . ولعل رسائل الحب الجاهزة أو المناسبات الاجتماعية المختلفة، التي نستلمها على الموبايل وأدوات الاتصال التكنولوجية الاخرى لهي أحسن الامثلة على ما يجري لتشويه القلوب والعقول واللغة أيضا . ظلت أكثر من رسالة على الموبايل تأتيني من المعلنين عن البضائع كبقية الذين يعرفون ارقامهم، بحجة الاهتمام “ بخدمتي “ وكأنهم لا ينامون الليل للبحث عن الوسائل لسعادة المواطن وليس زيادة فواتيره إن رد عليهم . ولأول مرة أفتح الرسالة فاذا بها “رسالة حب جاهزة “ تقول سأحبك وإن طال انتظاري، وإن لم يكن قدري فأنت اختياري “ . ضغطت على البرنامج فاذا به يصطادني ويرسل رسالة تقول “ شكرا على اشتراكك في برنامج حب، ستصلك رسالة كل يوم، ثمن الرسالة عشرة قروش . “ بالطبع الغيت محاولة صيدي لأكتب هذه المقالة .
لعل ما يقال بأن “ اللغة العربية في خطر “ لهو قول سليم . ذلك لأن اللغة العربية ليست فقط كلمات جميلة جاهزة . وذلك لأن اللغة كما قال الجاحظ “ اللسان ترجمان القلب، والقلب ،خزانة محتفظة للخواطر والأسرار وكل ما يعيه من الحواس من خير وشر، وما تولده الشهوات والأهواء ونتيجة الحكمة والعلم . “ وبهذا فقد جمع الجاحظ بين القلب والعقل في فلسفته النابعة من حياة الواقع في زمنه . وقالت العرب قديما “ اللسان ترجمان الفؤاد “ .وقالوا : “ المرء مخبوء تحت لسانه “ . وقالوا “ ما الانسان لولا اللسان الا صورة ممثلة أو بهيمة مرسلة، أو ضالة مهملة “ . انني شخصيا أكره الجمل الجاهزة في كل شيء . مثل هذه الرسالة التي تعمل ليس فقط على تعطيل العواطف الصادقة والابداع ، بل الخوف على اللغة العربية وتفريغ مستعمليها من العواطف الحيّة والابداع وخصوصا الشباب الذين بات الكثير منهم يعتمدون عليها ولا يستطيعون التعبير الحقيقي عن عواطفهم بأقلامهم .
يناقش موضوع اللغة العربية هذه الأيام في المحافل العلمية والمؤسسات الأكاديمية والثقافية بشكل ملحوظ . ويأتي ذلك من غيرة المتخصصين عليها وخوفا على اللغة من الضياع في خضم المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية المتداخلة والتي تؤثر بعضها ببعض في زمن سميّ بزمن “ العولمة “ . ويأتي ذلك كون اللغة هي أهم وأبرز سمات المجتمع الانساني ، ووسيلة واسلوبا اساسا لخلق صلة بين الانسان وما حوله . والأهم أن اللغة هي العامل الأساس في تشكيل هوية الفرد، يضفي عليه طابعه الخاص . وتدل دراسات ومناقشات المهتمين باللغة والثقافة والعلوم على أنها تواجه أزمة سميت “بأزمة اللغة العربية “ في مجتمع المعرفة الذي أصبح لا مفر منه في زمن المتغيرات التكنولوجية ووسائل الإعلام الحديثة السريعة مثل شبكة الانترنت، وما يتبعها من أدوات الكترونية والتي لها لغة خاصة لنقل المعرفة والعلوم .
اتهمت اللغة العربية أنها جامدة وغير قابلة للحياة والتطور وغير قادرة على نقل المعرفة واستيعابها بلغة العصر، أو الحوار الفعال واستخدامها في الامور الحياتية الواقعية وتعميق استعمالها . هرع الكثيرون من المهتمين الى انقاذ اللغة من هذا الاتهام، واهتموا بقضية الترجمة والتعريب من أجل الوصول الى مصادر المعرفة العالمية . ومع الأسف جاءت كثير من المحاولات ترجمات جافة تحكى أو تكتب بأسلوب ناشف دون” عواطف “ وكأنها تترجم منتجا غير انسانيّ ليس له هوية قومية أو ارتباطا باللغة العربية ومحتوياتها وقوالبها مما سميّ “ بالغزو الثقافي “ .
ولعل هذا المنحي ما جعل الكثيرين يبعدون فعليا عن اللغة نفسيا وثقافيا خوفا من اتهامهم بالالتصاق بالتراث الجامد البعيد عن الحداثة ومسايرة الزمن سريع التغير . هذا ما جعل الكثيرين من الجيل الجديد يكثرون من استعمال اللغات الاجنبية، وهم يطرزون كلامهم بها خوفا من الشعور بالنقص . وكما نرى ايضا استعمال اللغة استعمالا خاطئا بالتجارة بجمل الحب الجاهزة وبالمشاعر الشخصية في التعبير عن الكلمة الصادرة من القلب أو العقل أو من الاثنين معا ؟ . هناك اليوم خلل في الخطاب العاطفي كما السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يجعلنا نرفع الصوت !!