حرب غزَّة والحروب الدائرة في المنطقة، بالقتل والتنكيل والمعاناة الإنسانية -لا شك- “ تُبكِّي الحجر” ذلك الجماد المادة التي لا روح فيها.
وفي حرب غزَّة التي تُدمي القلوب، بكيت أكثر من مرة . وتساءلت لماذا أبكي ؟! وكنت كثيرا ما أنهض من أمام الشاشة لأريح نفسي . كنت أعتقد أنني الوحيدة التي تبكي لمشاهد العذاب الإنساني , ولكنني علمت من الباكين مثلي أنهم أيضا يدمعون أو تنهمر دموعهم، وتأكدت أن بكائي ليس ضعفا في العواطف، بل قوة انسانية، والبكاء في مثل هذه الظروف، وبشكل واسع بين الناس من الجنسين الرجال والنساء , والأطفال والشيوخ حالة طبيعية وإن كانت مختلفة من شخص لآخر لأسباب متنوعة .
بكيت على الأمِّ وهي تودع الشهيد , و على الطفلة التي تموت وهي تحتضن لعبتها ذات الرداء الزهري، وعلى الطفل الذي يصلي أمام حطام بيته في الشجاعية، بكيت و بكيت.. وحيدةً .
والذي زاد بكائي أنني تفاعلت مع دموع الصحافيين الذين يغطون الأخبار ويتراكضون بين الجثث و الأرواح التي تئن من الآلام . شهقت و”الدحدوح” مراسل الجزيرة يصف ذلك ويبكي و “وجد الوقفي” تزمزم فمها قبل أن تنهمر دموعها.
بكيت وأنا أرى المذيعين في مكاتب الفضائيات الذين يضغطون على أعصابهم كيلا تنهمر دموعهم . مثل تلك الدموع شعور عاطفي كبير يعبر عن تعاطف الإنسان مع الإنسان سواء أكان رجلا أم أمرأة، وسواء أكان شاهد عيان في الميدان أو مسمّرا أمام الشاشة في بيته .
لا شك أنه من الناحية الصحية البكاء مفيدٌ للأعصاب، والإنسان الذي يحزن يؤكد أنه ما زال هنالك أمل أن لديه قلبا لم يتحول الى حجر .
وبالرغم من أنه من صفات الصحافي أن يكون متماسكا وموضوعيا بتغطية الأخبار، إلا أن بكاء الصحافيين هذا يدل على عمل الصحفي الإنسان , وايضا في الصحافة الاستقصائية التي لا تضير من يبكي، ليكون -كما أرى- أكثر انسانية من المعتدي الذي فقد إنسانيته وقتل حق الانسان في الحياة .
من المثير للسخرية وجود ما يسمَّى بـ “الندَّابات” في حالات الموت، ففي مصر مثلا، إذ تستأجر العائلة نساء “متمرِّسات بالبكاء “ مقابل المال، يبكين في المآتم نيابة عن أهل الفقيد , أو لاعتبارات اجتماعية للتشجيع على البكاء، يقلن الأمثال والأشعار” البكائيات “.
وفي ثقافتنا أيضا هناك تعاطف مصطنع بمثل هذه المناسبات، واعتبار ذلك كما يقول المثل الشعبي “ كل شي سلف ودين حتى دموع العين “.
ساهمت تنشئتنا وثقافتنا الاجتماعية منذ الطفولة باعتبار البكاء لـ” النساء فقط “, ولعل قول الآباء والأمهات للطفل عندما يبكي: “عيب كون زلمة “، ما جعل الصورة النمطية للباكي هي “المرأة” والتي توصف بالضعف .
والكثير من الرجال أحبوا الضعف في المرأة لإرضاء غرور مزروع فيهم منذ الطفولة , حيث يعتبرون عدم البكاء رجولة !!!
إلا أن بكاء الصحافيين والصحافيات على آلام أهل غزَّة أثبت أنه ليس هناك تمييز في العواطف ولا تفرقة في” الجندر “، أما بالنسبة للثقافة الغربية فيختلف هذا , إذ يبكي الرجال وأيضا يضحكون بصوت عالٍ لأن تنشئتهم الطفولية تساوي بين الولد والبنت في كل شيء بحيث يستطيعوا التعبير عن أنفسهم بالفرح أو الغناء، في حال الانفعال .
في أمثالنا الشعبية هناك مثل يقول “ كل واحد بيعيَّّط على أمواته “ , و يبدو أن هذا لا ينطبق على بكائياتنا اليوم، لأن الشهداء في غزَّة ليسوا أقارب وليس هنالك صلة قربى بالدم معهم، بل البكاء على غزَّة وشهدائها الذين هم أموات الكل الذين ينزفون الدم، لذلك” نعيّط “ جميعا عليهم ! رجالا ونساء دون خجل، لأنه ما زالت لدينا إنسانية .!