لكل شيء، وكل حجر في القدس حكاياه. وفي كتابها الجديد “القدس والبنت الشلبية”، استنطقت الدكتورة عايدة النجّار رواة الحكايا. سجّلت التاريخ الشفوي المدعوم بوثائق لم يخطر في بال من يريد تهويد المدينة أنّها ستكون يوما شاهدا. نقَّبت ألبومات صور العائلات، وسأَلتهم عن ذكرياتهم، وبحثَت في دليل الهاتف، وإعلانات الصحف، وأخبارها، فاستخرجت أنماط النشاط التجاري، وتحولات الملابس، وتسريحات الشعر، وقصص الحجاب والسفور والفستان والبرنيطة، والطقوس الاجتماعية والدينية، وعلاقة المدينة بالريف، وقصص النباتات والأطعمة. رسَمت حياة سنوات ما قبل النكبة، وروت قصص عائلات وحارات وثورة وثائرات وناشطات وصحافيات وكاتبات وأمهات.

من القصص، حكاية مقهى “الصعاليك”. أسسه في المدينة العام 1917 شخص يعمل في الطّباعة، عُرف باسم مقهى “المختار” أو “مقهى العم أبو ميشيل”، مختار الطائفة الأرثوذكسية، الذي كان يرعى شؤون طائفته من المقهى. وأطلق عليه التربوي الفلسطيني الأشهر خليل السكاكيني، العام 1919، اسم مقهى الصعاليك، وأصبح ملتقى المثقفين والصحافيين. فيه كرّم السكاكيني تلميذته “البروفيسورة” كلثوم عودة، التي ولدت العام 1892، وهاجرت إلى روسيا تتعلم وتعلّم وتترجم الأدب من الروسية للعربية وبالعكس، وعادت للزيارة مع زوجها الروسي الذي تزوجته قبل سفرها بعد قصة حب عاصفة في القدس.

تذكرت وأنا أقرأ القصة مقهى “شجرة الليمون”، الذي أسسه في القدس القديمة نهاية السبعينيات، “البرفيسور” سري نسيبة، مع زوجته الإنجليزية، بعد عودته من الدراسة في جامعتي أوكسفورد وهارفارد، ليكون كما يقول نسيبة: “مقهى ونُزُلا حيث يختلط المتسكعون بالنخبة الفلسطينية الشابّة”. ولكن الاحتلال مارس تخريبه، حيث “عرف النسيج الاجتماعي في المدينة العربيّة فسادا لا يصدق. فشكّل تجار المخدّرات القابعون بالقرب من مقهى شجرة الليمون، دليلا فاضحاً على أنّ الفساد الاجتماعي تغلغل في حياة المدينة مستنزفاً قوتها القديمة”. تعرض المقهى لحرب، فحاولت الاستخبارات الإسرائيلية تجنيد عاملين فيه، وهددت مالكه بتلفيق قضية مخدرات له إن لم يتعاون معهم، واستسلم أصحابه وأغلقوه العام 1984 عندما وقعت جريمة غامضة لشخص خارج منه. 

المقاهي والمطاعم جزء من ذاكرة المدن وهويتها. وفي العام الماضي، حدثني صديق حقق أمنيته بزيارة فلسطين، كيف عانى ليجد مطعما مناسبا في المدينة. استعان بأصدقاء يقطنون هناك أعطيته أرقام هواتفهم، فحاروا معه. لقد أُقفلت المطاعم بسبب الحصار والمضايقات. وعندما دخل الصديق وعائلته أحد المطاعم، كان متوجسا أن يكون المطعم ليهود. سأل العاملين، فأجابوا بألم، أنّ أصحاب المطعم مستمرون في العمل رغم الخسائر، فقط حتى لا يتركوا المدينة للمستوطنين، وأنّ المفارقة أنّه بسبب الحصار وسوء الأحوال المادية للعرب فإنّ المستوطنين الذين يقصدون المطعم لتدني أسعاره وطيب طعامه، يشكلون مورد دخله الأهم!

لجأت عايدة النجار، بعد النكبة، طفلة صغيرة إلى عمّان، فوجدت الملاذ وعاشت أيّامها، سجلتها في كتابها الجميل “بنات عمّان أيام زمان”. وكنتُ صغيرا عندما قرأت أنّ فخري قعوار الذي كنت أطالع عموده اليومي “شيء ما” في الصحافة درس في القدس قبل العام 1967. وقبل نحو عامين صدرت رواية إلياس فركوح “أرض اليمبوس”، تسجّل قصة فتىً عمّاني يسكن قرب مطعم هاشم، يذهب للقدس ليتعلم في مدارسها الداخلية.

للقدس حكايا قديمة عن الحداثة الجميلة، وحكاياها الحزينة الآن.

في كتاب “الشلبية” حكايا “شلبيّات” كُثر، منهن سلمى الخضراء الجيوسي. فإذا كانت كلثوم عودة سجّلت التواصل مع الروس، فإنّ سلمى تعكف منذ عشرات السنين على ترجمة الأدب العربي للغات العالم، وترعى الدراسات عن تراثنا وتقدّمه للعالم، حتى قيل إنّه لا يوجد وزارة ثقافة عربيّة قدّمت ما قدمته، فهل سنشهد يوما تكريم “البروفيسورة” سلمى في القدس؟ وهل سنشهد معهدا عالميّا للثقافة في القدس يحمل اسمها ويليق بها؟!

د.أحمد جميل عزم

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment