خطر لي وأنا أقرأ كتاب د. عايدة النجار، الجديد، “لفتا يا أصيلة.. خُرّيفيّة قرية”، أنّه سيكون كالعطر؛ يتفاعل مع كل جسد بطريقة مختلفة. إذ سيتفاعل الكتاب مع شرائح قُرائه بطرق مختلفة؛ ففيه مادة مهمة للأكاديمي ليحللها، ومادة لمن يتلّمس تفاصيل الوطن في قصص صغيرة “منمنمة” تمس الروح والذاكرة، وغير ذلك الكثير.
تُسجّل عايدة النجار في الكتاب الذي أُطلق هذا الأسبوع، تفاصيل خروجها وعائلتها من القدس، وتحديداً من قرية “لفتا” المجاورة للسور الغربي للمدينة القديمة، العام 1948؛ طفلة صغيرة، بعد تهديد بتطهير عرقي عبر مكبرات صوت، جاب بها الصهاينة شوارع القرية، غير البعيدة عن دير ياسين التي شهدت المجزرة الأشهر. وكيف قامت قبل خروجها وشقيقاتها، وهي ابنة مختار القرية، بتغطية البيانو الذي كن يعزفن عليه، خوفاً من الغبار، غير مدركات أنّ الغياب سيطول.
تفوح في الكتاب رائحة حجارة القدس وعبقها، مثلا، مع شخصية وردت بشكل عابرٍ في صفحاته، لكنها تصلح محوراً لعمل أدبي، هي شخصيّة نجمة خروفة؛ السيدة المتخصصة بالتطريز، من بيت جالا، والتي تمتلك متجرا في حارة النصارى بالقدس القديمة، وتأتيها بنات وسيدات لفتا بعد أن ينتهين من تطريز الثوب بأناملهن، لتقوم هي بإتمام الثوب أو إنهائه بغرزة “التحريرة”.
كان حديث الفرح وقصص الأعراس في لفتا، والثوب وما فيه من رسائل سياسة ووطنية من جهة، ودلال وأنوثة من جهة أخرى، ولكن المحل كان أكثر من ذلك؛ فنجمة زودت مناضلين بالسلاح، وكان محلها حلقة وصل بين الوطنيين، ومساعدة المشردين من الحرب.
في الكتاب شخصية أخرى، جمعتُها من شخصيات في الكتاب وصهرتُها في شخص واحد. ففي الكتاب فتيات ينزلن صباحاً لجمع الحشائش والثمار قبل جفاف الندا عنها، لتكون طريّة. وتفزع فتاة في عمر الورود، من أن “يفطّ” غزال أو يرِفّ طير أمامها بين النباتات. يُعجب بها شاب في موسم قطاف الزيتون، يقدم لها زهر الزنزلخت الليلكي الجميل، ويتخيل عرسهما وأغنية “عالزنزلخت” الشهيرة. وهي ذاتها الفتاة المسلمة التي تذهب مع أمها ورفيقاتها لكنيسة الجسمانية لتقديم النذور وإشعال الشمع، وتذهب معها صديقتها المسيحية والأرمنية، مرورا بجارتهم اليهودية (كما جاء في كتاب واصف جوهرية) للنزهة على المسطحات الخضراء في محيط القدس. هكذا كانت الحياة حتى جاء البريطانيون ووضعوا قواعد فصل الطوائف عن بعضها، وحتى جاء الصهاينة.
يأتي خطيب هذه الفتاة لها بالقرنفل والبنفسج، من أرض القرية، فتطلب باقة ثانية لمعلمتها السابقة ليلي الخالدي في المدرسة المأمونية بالقدس، وهي التي تخيط لعرسها ثوب جنة ونار، وتذهب لمحل “نجمة خروفة” لإتمامه، والتي تخجل عندما تنحو أغاني زفافها للحديث عن تفاح الخدود ورمّان الصدور. ثم يعتاد عريسها أن تأتي له بفنجان زيت زيتون صغير كل صباح ليشربه، وتقول له “بقوي العصب”؛ وتأتيه بمنقوع البلح، قائلة: كانت ستنا مريم تأتي بالمنقوع لسيدنا عيسى، وكان أكله من سنن سيدنا محمد عليهما السلام.
لفتا التي بُني فيها زمن المماليك خانٌ لخدمة المسافرين، وهي القريبة جدا من القدس القديمة، واستهدفها الصهاينة وبنوا هناك الجامعة العبرية والكنيست، تشكل جزءاً أساسياً من تاريخ القدس.
وعائلة عايدة التي تركت البيانو، هي ذاتها عائلة المختار الذي يقدم ستين “منسفا” في العرس، ويُقدم له ستون “منسفا” في العزاء، وهي ذاتها العائلة التي أنجبت أول مهندس في القرية، وكان كبيرها، الحاج اسماعيل النجار، عضوا في الجمعية الإسلامية المسيحية التي تولت عبء مواجهة المشروع الصهيوني بين العامين 1919 و1928، قبل أن يخلفه ابنه علي في مركز المختار، والذي سينشئ مصنع “كازوز” وسينما سلوى في الزرقاء بالأردن، بعد النكبة، وظل ينتظر العودة التي لم تكن، حتى رحيله عن الحياة.
يعني احتفاء الناس بفلسطين، وتاريخها، وحاضرها، وسرد قصصها الصغيرة والكبيرة، أنّه إذا كان العرب وأغلب أهل فلسطين ممنوعين منها، فإنّ ما يحدث هو تحول فلسطين من مجرد مكان إلى فكرة، وجزء من الوجدان والذاكرة والروح، وتحوّلها لما هو أسطورة وعقيدة.
تحول هذا المكان إلى فكرة وصور تسكن البال والخيال، تترافق مع معاناة الاحتلال، هي التي توضّح كيف يتصدى شاب لم يبلغ العشرين للآليات الإسرائيلية بحجره.