أوتي المحتلّ الإسرائيلي قوة عسكرية جعلت القرى الفلسطينية أثراً بعد عين، كما أوتي صفاقة جعلته ينتحل الفلكلور الفلسطيني، حتى أن زوجة وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان كانت ترتدي في مناسباتها الرسمية الثوب الفلاحي المطرّز مدّعية أنه من التراث الإسرائيلي، بيد أن قدرات الشعب الفلسطيني، على النهوض من كل كبوة، بقيت عصيّة عليه.. لعل هذا أول ما تبادر لذهن المتلقّي أثناء توقيع الدكتورة عايدة النجّار كتابها الجديد «لفتا يا أصيلة»، في منتدى شومان أول من أمس.
في وقت تسمّى فيه الكتاب، الصادر عن دار السلوى والذي تم توقيعه بحضور كلٍ من رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري ووزير الثقافة الأسبق عادل الطويسي والأكاديميين د. أحمد جميل عزم و د. سالم ساري، بقرية لفتا، فإن ما ورد فيه يتجاوز حدودها؛ ذلك أنه استعرض منطقة القدس برمّتها، بل يكاد الكتاب يصوّر منظومة عيش الفلاّحين في عموم فلسطين، مسلّطاً الضوء على تداخل موروثهم الشعبي والفكري، ما انعكس بدوره على أنماط تعاطيهم مع المرأة ولباسهم ولهجاتهم والحركة التعليمية لديهم، ومن ثم مجابهتهم الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكتب النجّار فحسب، بل هي كست عظام القرية، المهجورة منذ العام 1948، لحماً، وألبستها ثوبها الفلاّحي من جديد، وجعلتها تزغرد وتغني أهازيجها الشعبية وتردّد أمثالها، وتحكي عن محاصيلها وهويتها العمرانية وعائلاتها وطقوس الزواج والولادة والتعليم وغيرها من جوانب حياتية لم تغفل الكاتبة أي منها مهما بَدَت صغيرة، جاعلةً الأسلوب، كما في كتبها السابقة، يراوح بين التوثيقي والروائي؛ فلا هي أغفلت قيمة المراجع التاريخية والوثائقيات والأرقام، ولا هي في الوقت ذاته جنحت نحو لغة أكاديمية جافة ونسيت اللمسة الإنسانية، بل جعلته كتاباً يعتمد على توثيق كثير من روايات الأهالي الشفوية (وهو ما يفسّر تسميتها إياه في عنوان صغير: خُرّيفية قرية) بلغة مضمخة بالشجن، لا تتعالى على أي معلومة مهما كان مصدرها؛ لذا نوّهت الكاتبة لمصادر مقاطع عدة كمواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تواصل الفلسطينيين في الشتات.
قدّمت الباحثة بيان نويهض الحوت لكتاب النجّار، قائلة بأن الكاتبة برعَت في جوانب عدة، منذ بدء مسيرتها؛ إذ هي «من الذين كتبوا البحث التاريخي الموثق والتاريخ الشفوي والمقال الأسبوعي والقصة القصيرة، كما برعت في كتابة خاصة تستند إلى ذكرياتها وذكريات الآخرين، فضلاً عن كونها باحثة متجددة فكراً ونهجاً وعطاءً».
وزّعت النجار مجموعة كبيرة من صور أهالي القرية وفعالياتهم، ضمن صفحات كتابها التي تبلغ 415 صفحة من القطع الكبير، ما جعل هذه الصور، إلى جانب النص الذي أفسح المجال كله لأهالي لفتا، تاركاً للكاتبة حيزاً صغيراً نسبياً لتتحدث فيه عن حياتها الشخصية، جعله مختلفاً عن باقي الكتب التي تتناول مذكرات شخصيات فلسطينية سقطت في فخ النرجسية فأضاعت الفكرة الرئيسة وميّعت الهدف الأهم وهو التوثيق من أجل خدمة فلسطين.
استهلّت الكاتبة مؤلّفها بالتعريف ببنية المجتمع الفلسطيني، والريف على وجه التحديد، لتأتي على ذِكر المستوطنات اليهودية في ذلك الحين، ولتمضي عقب هذا نحو القرية جغرافياً وتسميتها ونباتاتها الشهيرة ونسيجها الاجتماعي وحاراتها «الفوقا و»التحتا»، متحدثة بعد هذا عن بيوتها وقصورها وطوابينها ومطابخها ومن ثم أقمشة الزي الشعبي وأنواعه الرجالية والنسائية، إلى جانب العرس اللفتاوي والإنجاب والاحتفالات الدينية والتعليم والثقافة والنشاط السياسي لأهالي القرية ومن ثم النكبة والتهجير والشهادات المتنوّعة، ما يجعل من هاجس الشمولية واضحاً، ومؤسِساً لنوع كتابة مفتقدة في المكتبة الفلسطينية وهي التوثيق المستفيض لقرية بعينها، وباستخدام الوسائل كافة القديمة والحديثة في جمع المعلومات وغربلتها وعرضها.