يعرف الفلسطينيون تماماً أهمية تسجيل حضورهم كتابة ورواية وحركة في خضم هذا العالم القاسي على الضعيف، كضرورة وجودية لحفظ الذات والهوية المهددتين. لذلك، يعملون بكل الطرق على شَغل حيز ديناميّ نابض ومُلفت ليقولوا إنهم هنا، سواء بالنضال السياسي والعسكري، أو غزارة الإنتاج الثقافي والفني والفيزيائي، وكل مُتاح وممكن. وفي الحالة الفلسطينية، ليست النتاجات في كل وأي مجال متحققات تلقائية في حركة بلد مستقر محدد الأبعاد، وإنما هي جزء من معركة حياة أو موت تشكل تحقُقاً مثالياً للعبارة الشكسبيرية القَدرية: “أكون أو لا أكون”، في ظَرف تُستهدف فيه هذه الكينونة بالإعدام والقتل -لا أقل.

يدرك الفلسطينيون أن تعطيل وجودهِم مشروط أساساً بإسكاتهم وشطب سردهم من التاريخ. ولذلك يُصرون على استمرارية السرد وحضور الصوت في العالَم كأداة للمقاومة. وتكتسب كل إضافة إلى هذا السرد أهميّة مضاعفة كثيراً، باعتبارها واجباً نضالياً، وتَحقُقَاً لمهمة الإعلان عن نجاة الذات الفلسطينية من المحرقة التي تُمارس ضدها منذ عقود.

في جُهد يعي تماماً هذه الشروط، كتبت الدكتورة عايدة النجار عملها المتميز “لِفتا يا أصيلة.. (خُرِّيفية قرية)”. ومع أنّ الكاتبة عبَّرت في عملها عن عاطفة خاصة وطبيعية لقريتها “لِفتا” المقدسية المهجَّرة والمهدومة، فإنَها أنطقت في الحقيقة كلَّ القرى الفلسطينية التي غيَّب الاحتلال تعبيرها الشكلي، لكنّه عجز تماماً عن محو حضورها في العاطفة والذاكرة الفلسطينيتين اللانهائيتين. وسوف يشعر كل فلسطيني يقرأ كتاب عايدة النجار عن “لِفتا” بأنه يتجول في قريته هو، ويصادف في كل زاوية نفسَ الملامح والتفاصيل والمفردات والناس. وفي الحقيقة، روت الدكتورة عايدة في قصة “لفتا” التي تعرفها عن قرب، حكاية فلسطين اليومية البسيطة والطيِّبة؛ كيف يزرع أهلها حقولهم ويبنون، ويضحكون ويبكون، ويتزوجون ويغنّون، وكيف تروي الجدات “الخُرّيفيات” البديعة للأحفاد في المساءات. وقد عكست الكاتبة هذا الحسَّ الغامر بالعفوية والطبيعية والإلفة في أسلوب عملها غير المتكلف أيضاً، لأن هذه الطبيعية هي جزء من تكوين الفلسطيني الذي يحمل جينَ الحنين ويرتبط عضوياً بالجذور.

لا تحب الدكتورة عايدة أن تسمي عملها “تأريخاً” صرفاً. وتكتب في المقدمة: “اعتمدت على أكثر من أسلوب للتوثيق، ولا أقول التأريخ بمفهومه التقليدي”. وأتصوَّر أنها لم تتردَّد كثيراً أمام الاختيار بين الخضوع لشروط المؤرخ الأكاديمي، وبين الذهاب إلى حُريّة الراوي. وربّما أحبَّت أن تجسد بتجوالاتها غير المقيدة في الكتاب كيف يريد الفلسطيني أن يكون حُرَّاً  في أي مساحَةٍ تُتاح أثناء بحثه عن طبيعيته المستلبة. وتُدرك الكاتبة أيضاً -من واقعها الأكاديمي- أن ثمَّة الكثير مما لا تتّسع له خُطة المؤرخ ولا تستطيع أن تقوله. ولذلك انحازت إلى ما يتيحه التجوال في حواري “لِفتا” بلا خُطَّة، والاستماع إلى ناسِها، ووصف أثواب نسائها ورواية أحاديثهن الفلاحية المتخففة من تعالي لغة التاريخ. وببساطة، اختارت الدكتورة عايدة الوفاء بحصتها، على طريقتها وبما يستجيب لعاطفتها، من الواجب الذي لخصة الراحل إدوارد سعيد في عبارته النبوئية: “على كل فلسطيني أن يروي قصته/ قصتها”.

بالإضافة إلى عمل المؤرخ الضروري، هناك العمل الأقرب إلى نبض الحياة: عمل الراوية الملحمي، الذي يتعقب الوشائج الحميمة بين الناس والجذور، ورحلتهم العاطفية إلى المكان والأصل. وجعلت الخصوصية الفلسطينية تعقب هذه العلاقات وتحريض الشعور بها لازمة للعثور على مكان عاطفي في واقع مليء بالغربة واليتم، ولمساعدة الفلسطيني على تلمس أطرافه وتصديق وجوده الذي ينكره الآخرون، ورؤية المكان الذي يواصل الطريق إليه رغم كل الأضداد. وقد أحبّت عايدة النجار هذه الحيوية التي يبثها الراوية الملحمي فيما يكاد يصبح مجرداً. وكتبت عن قريتها: “أعود إليها اليوم من خلال كتابي… لأسترجع سيرة لفتا التي أصبحت حكاية شبه خيالية”.

أثناء عملها على هذا الكتاب، حدثتني الدكتورة عايدة في مكالمة هاتفية عن مشروعها بشغف العاشق. حدثتني عن عملها السابق وكيف وصلت إلى هنا. قُلت إنني أحسدها لأنها وجَدت أخيراً تلك الفرصة التي نحتاجها جميعاً لإنجاز مشروعاتنا الشخصية المؤجلة. فقالت إنها كتبت بالضبط هذه العبارة في عنوان مقدمة كتابها: “لِفتا مشروعي المؤجل”. وفي الحقيقة، سيبقى المشروع الشخصي لكل فلسطيني مؤجلاً حتى يروي قصَّته، ويعود.


علاء الدين أبو زينة

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment