في عام النكبة، الذي بدأ أعوام النكبة، هجّر المستعمِرون فيمن هجروا أهل قرية لفتا، من ضواحي القدس. وفي 72 عاماً من الغياب، ظلت بيوتها الحجرية جالسة على كتف الجبل، «تنادي من بناها الدار، وتنعى مَن بناها الدار» بتعبير فدوى طوقان. ولأن «نفتوح» الكنعانية، أو «نفتو» البيزنطية، أو «كليبستا» الأيام الصليبية، و»لفتا» كما غادرها أهلها في عام النكبة، لوحة جمال يغالب الوحشة، يستحضرها المحتلون الآن للاستيطان، والسياحة. لقد تمكنوا – وهم الذين بلا أثر ولا سطر في تاريخ هذه الأرض- أن يصنعوا «آثاراً» من قرى جعلوها أطلالاً وأهلها أحياء، وجعلوها متحف «جماليات» يسوقونه على الزوار، بالضبط كما قال محمود درويش: «وكان جُرحي عندهُم مَعرضاً/ لسائحٍ يعشقُ جمعَ الصور».
بالطبع، لا حاجة بالفلسطيني إلى يوم يذكره بالنكبة. كل فلسطيني مات أو عاش أو هُجِّر أو بقي منذ ذلك العام مسجل تلقائياً في كتابها، منذ الولادة -أو حتى قبلها، وحكايته فصل منها. وإنما المناسبات انكسارات في السياقات، وقد يُكثف إلحاح الإعلام على عنوان في يوم واحد انطباعاً مفرداً، أو ينتخب شيئاً للانتباه، ويُنحّي ما عداه. وقد عرضت محطة فيلما وثائقياً عن لِفتا هذه الأيام، شاهدتُه فيمن شاهَد. ولا أحبّ الوثائقيات عن فلسطين، التي تعرِضُ الجماليات الفلسطينية في إطارٍ كثيف من النكبة.
مع لفتا، أفكر في الراحلة الدكتورة عايدة النجار. لم أرَ لفتا عياناً، ولم أقابل عايدة النجار عياناً. لفتا حاضرة في الوعي والتكوين، كجزء من الكل الذي هو فلسطين، حيث لا تفاصيل ولا جغرافيات ولا علامات حدود تقسِّم العاطفة على هذا المعنى الذي يعني للفلسطيني ما هو. ولذلك، سجلتني عايدة النجار في كتاب «لفتا» كواحدٍ من أهل الدار الكبيرة، بالتعريف.
كنّا نتحدث بالهاتف، ليس كثيراً، وإنما طويلاً في السنوات الأخيرة، مع وعدٍ منّي بزيارة تأخرت كثيراً الآن. لكننا كنّا معارفَ جيدين، في تقديري، مثل أي شخصين يعرف كل منهما قصة الآخر، أكثر أو أقل، ولا يجدان صعوبة في بدء حديث والأشياء مألوفة كأنها ذكريات. لا حواجز ولا جليد؛ الألفة تحضر بلا عناء ولا تغيب.
عايدة النجار، واحدة من الفلسطينيين الذين كتبوا شهاداتهم تحت أسمائهم في دفتر النكبة. وهو شأن ظرفي. يصادفُ أن تكون للبعض قدرة التعبير بالكلمات، وقد تعرض لهم رحلتهم فرصة للتوقف عند الدفتر المفتوح، وكتابة شيء عنهم ونيابة عن الآخرين. لذلك يكون غيابهم ملاحَظاً أكثر، لأن صوتاً عالياً كفّ عن السرد، مثلما يسكت راوي القبيلة أو شاعرها، ويخلّف غيابُه صمتاً واضحاً يضرب على الأعصاب.
عندما كتبت عايدة النجار عن لفتا، سجَّلَت ما لم يوثقه أهل لفتا فُرادى –كتابة- عنهم وعن بلدتهم وحكاياتهم تحت أسمائهم في دفتر النكبة. وسجلت لكل الفلسطينيين –كتابة- فصلاً من قصتهم الجمعية وجزءاً من معناهم الوجودي، كحَملةٍ فريدين لهوية وطنٍ كله حكاية مُربكة تناقض منطق الكائنات. وقد تتقاطع السجلات بطرُقٍ غير متوقعة. كان التعارف الأول بيننا حين اتصلت مستشيرة في تضمين شيء أعجبها كنتُ كتبته عن أثواب الأمهات في كتابها عن، لِفتا. بالطبع، أثواب الأمهات هي نفسها، والتفاصيل الغائمة الآن تنويعات على نفس العاطفة.
عايدة النجار من الجيل مضاعَف النكبة، من الذين وُلدوا في فلسطين، وأصبحوا فجأة بلا فلسطين، ورحلوا وقد خذلهم الوقت، دون أن يعودوا إلى فلسطين. بالنسبة لهؤلاء، ليس البلد ذلك المعنى المجازي الذي يؤسسه الفلسطيني المولود في المنفى ويظل يؤثثه ويجرب معه حتى يموت. إنه شجر وتراب وبيت وحياة كاملة واقعية، ثم اللجوء في حياة ثانية تكدَّر فيها معنى الواقعية. ولا بد أنهم يفكرون عند الرحيل مثلما يفكر الغريب.
الفلسطينيون كلهم منذ النكبة لا يحددون في أي مكان يعيشون، وليس لهم حق الوصية بأين يُدفنون. رفعهم شيء عن الأرض وعلّقهم في الهواء، وهناك يعيشون، ويعملون، وينجبون أولاداً معلقين معهم في هذا الوضع غير المتوازن، القلق، غير الإنساني، ويسقطون فقط عندما تتوقف الأطراف، على أرض– وفي أرض- أخيرة غير اختيارية إلى حد كبير. تماماً مثلما هي أسماؤهم كلهم -الذين وثَّقوا شهاداتهم كتابة، والذين تركوهاً شفهية، والذين لم يفصحوا عن شيء- مكتوبة كلها في كتاب النكبة.
علاء الدين أبو زينة