رحلت الباحثة والإعلامية » د. عايدة النجار» في عمان التي عاشت معظم حياتها فيها.. منذ طفولتها حتى وفاتها عن 81 عاماً.
وقد امتازت د. النجار بتأصيل الذاكرة النسائية القديمة من كل جوانبها… في كلٍ من عمان عاصمة الأردن والقدس الشريف عاصمة فلسطين.
حيث كانت تتحدث عن الذاكرة الاجتماعية والتاريخية والمكانية والشخصية من خلال نفسها والناس–إناثاً وذكوراً- عبر كُتبٍها العديدة ومنها:
بنات عمان أيام زمان
وكان أول كُتب الذاكرة تلك للباحثة النجار هو كتاب «بنات عمَّان أيام زمان–ذاكرة المدرسة والطريق» والذي صدر بعدة طبعات في عمَّان كان أولها عام 2007.
وفي هذا الكتاب استعرضت الكاتبة ذكريات حميمة لبنات عمان أيام زمان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. فبعض البنات كن محظوظات لأن فساتينهن البيضاء كانت قد حاكتها لهن إحدى الخياطات المعروفات في, من اللواتي كن يخيطن الملابس لسيدات الطبقة الراقية ومنهن مثلاً (مزين البرق) وكان بيتها يقع في أول شارع الشابسوغ عند موقف باص الزرقاء.
و(كوكب العقروق) وكان منزلها يقع في شارع الملفوف المتفرع من طلعة جبل عمان قبل أن تفتح محلاً راقياً في آخر طلعة جبل عمان عند الدوار الاول, وقد استقطبت أكثر زوجات الوزراء والمسؤولين في عمان.
وكذلك (نشأت عبده) وهي شقيقة (سميحة عبدة) المعلمة في مدرسة زين الشرف وكانت تسكن بجوار المدرسة.
ومن بين الخيَّاطات كذلك عدد من الأرمنيات الأردنيات اللواتي أتقنَّ المهنة, وكذلك بعض الشركسيات الأردنيات ومنهن (نظمية اباظة) وكانت اجرة خياطة الفستان تتراوح ما بين (15-75) قرشا
أمَّا البعض الآخر من البنات فقد كن يشترين الفساتين الجاهزة من المحلات القليلة التي تستوردها من الخارج ومنها (محلات كليوبترا) مقابل البريد و(محلات الحايك) في طلوع جبل عمان.
وقد كانت فساتين الأمهات في الخمسينيات رزينة وذات ألوان غامقة وراكزة مثل البني والرمادي والزيتي, ولا تلبس الأمهات اللون الأحمر بعد سن الأربعين.
وكانت موضة الفساتين تختلف عن فساتين بناتهن الأكثر تماشياً مع الموضة والأكثر تأثراً بالمجتمعات الغربية, مثل فساتين نجمات السينما التي بدأت تتسرب وتؤثر في تغيير العادات والتقاليد.. ففساتين الأمهات كانت بشكل عام فضفاضة وترتفع القبة لتغطي العنق وطويلة لنصف الساق أو كله والأكمام طويلة.
و تستمر مؤلفة كتاب (بنات عمان ايام زمان) د. عايدة النجار في سرد ذكريات بنات جيلها حول أمور كثيرة, منها أيضاً دخول موضة الكعب العالي وأدوات التجميل والصالونات والاحتفالات والرحلات وحضور أفلام السينما والمظاهرات الوطنية.
والحديث عن شخصيات نسائية عديدة ومؤثرة, وكذلك الشخصيات الرجالية المؤثرة ايضا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عمان بتلك الفترة.
وكان هذا الكتاب والذي يستأثر على عقل وقلب القارئ والقارئة بسبب عودته الى الحنين والشفافية للماضي الاجتماعي وللمكان في عمان قد لاقى انتشاراً كبيراً لدى العديد من الأردنيين.
فقد عُقدت حين صدورهذا الكتاب بطبعته الأولى العديد من الندوات والأمسيات التي احتفت وناقشت الكتاب مع المؤلفة.. حتى أنَّ الكثير من قراء هذا الكتاب ودُّوا لو اشتركوا في إضافة وسرد ذكرياتهم وما عرفوه عن تلك الفترة الزمنية والاماكن والاحداث التي عايشوها.
ومن المدهش ان اكثر القراء لهذا الكتاب كانوا من فئة الشباب ذكوراً وإناثاً.. وكان العديد منهم يشترون الكتاب ليهدونه الى أمهاتهم وجداتهم مثلاً.. وكان أن تحدث حلقات قراءة أسرية جماعية لفقرات هذا الكتاب في البيوت.
اما في الطبعة الثانية لهذا الكتاب والذي صدر- بسبب نفاد الطبعة الأولى- فقد قامت د. عايده بتنقيح وزيادة بعض المعلومات, وكذلك زيادة الصور الفوتوغرافية القديمة.. ومنها مثلاً: صورة أساتذة وطلاب الكلية العلمية الاسلامية في الخمسينيات يتوسطهم الشيخ النبهاني.. وصورة طالبات في زيارة لقبة الصخرة في القدس.. وبركة السباحة وسينما سلوى في الزرقاء.. والمطبعة الوطنية في عمان.. ورئيس الكشافة العالمي يزور فرقة الكشافة في مدرسة زين الشرف في عمان بالخمسينيات.. وفندق فيلادلفيا ومسابقة ملكات الجمال.. وفندق الاردن في جبل عمان وهو بطور الإنشاء.. ومدرسة المأمونية في باب الزاهرة بالقدس قبل عام النكبة 1948 وصورة أخرى للمدرسة بعد الاحتلال الاسرائيلي.
وفي الفصل السابع هناك بعض الفقرات والمواقف تتحدث فيها المؤلفة عن: شقاوة بنات المدرسة الثانوية, فقد أخذت الكثيرات من بنات مدرسة زين الشرف بالذهاب الى (مطعم جبري) في الفترة المخصصة للغداء.. فالكنافة كانت الحلم الحلو بعد الدراسة.
وتتذكر (مكرم قندور) ابنة عزت قندور وكان ذا رتبة عالية في الجيش وقد رآها والدها مع صديقاتها تخرج من مطعم جبري.. فنبهها بعدم التردد عليه مع البنات.. ومنذ ذلك اليوم اصبحت تخاف من التأخير والعودة للبيت الذي يقع في (حي المهاجرين).
وبعد الانتقال من الزرقاء الى رأس العين والسيل الجميل الذي كان الكثير من الشركس يسكنون حوله تقول د.عايدة:
كلما مررت من أمام مطعم جبري–هذه الأيام- أتذكر أيام الشباب والشقاوة أيام زمان.
وكانت صديقات المدرسة أيضاً يسعدن بتناول الغداء في (مطعم الأوتوماتيك) المقابل لمطعم جبري, حيث كان المطعم يقدم الوجبات على سطح العمارة المطلة على الشارع.
ومثل هذه التصرفات البريئة لم تكن للبنات كتحدٍ للأهل او العادات والتقاليد بل كانت أحد عوامل الحراك الاجتماعي الذي يأخذ مجراه بشكل طبيعي للمزيد من الحرية والانطلاق.
وقد خفَّ وقع ما اعتبره البعض تمرداً من البنات في الخمسينيات ليصبح مقبولاً من الأهل في العقود اللاحقة.. ولتتغير كثير من العادات والتقاليد المتعلقة بالمرأة في مجتمع أصبح مفتوحاً على الثقافات العالمية.
وفي هذه الفترة ازداد عدد المطاعم والمحلات التجارية في السوق قاع عمان وسط البلد، مما ساعد على إيجاد أماكن أكثر للوقوف بها والتسكع في الطريق الى البيت.
وتقول: أتذكر كيف كنت أطلب من المطعم طبق (النخاعات) معتقدةً ان ذلك يزيد الناس ذكاءً.. ولم أكن أعرف أنه يزيد نسبة الكوليسترول في الدم.
وكان (ستوديو لندن) للتصوير الفوتوغرافي والذي يقع على زاوية عمارة البريد قرب تكسي الرشيد أحد المحلات التي تقف البنات عنده لأخذ الصور التذكارية مع (أعز صديقة لها).
وقد وثَّقتُ صورةً أخذتها مع الصديقة (فتوح ابو الفرج المفتي) وهي من صفد، وقد قرب موعد الفراق في آخر السنة الدراسية (المترك) قبل ان تلتحق فتوح بدار المعلمات.. ولأسافر أنا لأول مرة بالطائرة الى (القاهرة) لأكمل أول مرحلة في الدراسة الجامعية قبل (اميركا) فيما بعد.
عمان بين الغزل والعمل
وفي كتابها الأخير الصادر عام 2019 «عمان بين الغزل والعمل» تشير المؤلفة النجار في المقدمة بقولها: لم أتوسع في جولاتي لأصل الجبل والجسر والفضاء الأوسع في عمان مترامية الاطراف، المتمددة على التلال السبع، المفتوحة على الجهات الاربع التي تشكل مدينة عمان العصرية.
فلم تشمل رحلتي كل التلال والمطارح في عمان، واقتصرت على عمان القديمة التي كانت عمان الجديدة سابقاً!!وهي التي ظلت في ذاكرتي وعشتها في كتابي (بنات عمان ايام زمان).
لقد كنت في هذا الكتاب الجديد–عمان بين الغزل والعمل–أحاول الاجابة عن اسئلة يسألها بعضهم: كيف كانت عمان بالأمس وكيف هي اليوم؟! وكيف هو الجيل الجديد من ذكور وإناث في عالم اليوم سريع التغير؟!.
لذا كان الموبايل وعين الكاميرا المثبتة فيه ترافقني وتلح عليّ التوقف لالتقاط صور توثق ذاكرة المكان والانسان, بالاضافة للاستعانة بصور أرشيفية.
ففي الفصل الأول تتحدث المؤلفة عن (عمان المكان) حيث القرية تتمدن من أرض خصبة وزرع أخضر الى تاريخ يشي بمن مرّوا بعمان, وعن غزلٍ يتغنى بالمدينة, ثم الوفاء والحب المستمر, فبعضهم يحب عمان بريئة, لكن هناك الصراع بين التراث والحداثة.
وفي الفصل الثاني حديث معاصر وذكريات عن (جبل عمان) الجبل المدلل.. حيث الصعود للجبل من قاع المدينة, للبحث عن ذاكرة الناس, وعن مدرسة أروى بنت الحارث التي تحولت لمطعم!! وعن حارات جبل عمان وغيرة الاحفاد على البيوت القديمة, وسوق جارا الذي يحيي ذاكرة المكان.
وفي الفصل الثالث تستعرض الباحثة بيوت عمان القديمة التي تحكي القصص عن أمير متواضع يسكن جبل عمان.. عن نوفة التي تسكن بيت حنا القسوس.. وعن بيت عودة باشا القسوس في الجوار.
وعن دار الأرمني الكريم, وقصر البلبيسي الذي لا يشيخ, وذاكرة ميّ بلبيسي وشجرة الاسكدنيا, ثم بيت (ابو نايف) العودات, وبيت آل عصفور الأزرق اللون, وعن بيت جميعان, وبيت سعيد المفتي, ودار وردية على كوع الشارع.
وهناك حكايا من دار منكو, ودارة حمدي منكو التي صارت تحتضن المبدعين, وقرية الكباريتي في الشارع العريق, وعن بيت جلوب باشا, وعن الروائح الجديدة في الحارات القديمة.
وفي الفصل الرابع والذي كان بعنوان (غزل البنات) أخذتنا النجار صاحبة الذكريات الى صور الحفيدات.. حيث البنات العصريات يتشبهن باللعبة باربي, والمعايير الشرقية لجمال المرأة وصناعة الجمال.. وغزل البنات رمز الحلاوة, فقد ظل شعر البنات رمزا للجمال, وعن رأي العطَّار بهذا الجمال.
وأحاديث أخرى عن صالونات التجميل كمهنة وفن, وشعر عهد التميمي الذي أصبح أيقونة للجمال!! وعن نساء عمان ووجهات نظر مختلفة حول الحجاب!! بأشكاله وألوانه, وما للغرب من رأي بالحجاب, ونظرة الى الجينز سيد الموضة العصرية الذي انتشر حيث يرتديه الغني والفقير, وعن تهميش الفستان والأنوثة.
وفي الفصل الخامس تعود الكاتبة (للمكان في عمان الجديدة) الى شارع زهران حيث ثمانية دواوير ومعالمها الجديدة, وعن الفلل والقصور في عمان الغربية, وعبدون الجميلة وأخواتها, وفندق الاردن, ومستشفى ملحس الذي اختفى, وشارع الرينبو الذي أصبح تجارياً!! وعن هاجس الخوف على الهوية من العولمة.
والفصل السادس فيه حديث عن (ثقافة المقاهي في عمان القديمة- الجديدة) إذ تتطرق الباحثة النجار الى مقاهي عمان ايام زمان, وحلم مؤنس الرزاز في مقهى ثقافي.
ثم تذكر مستنكرة بقولها: مقاهي عمان اليوم تدخن بنهم فلماذا التدخين؟! والبنات يدخنّ كالأولاد!! والأرجيلة عروس مقاهي عمان!! لكن مركز الحسين للسرطان في عمان هو العدو الاول للسيجارة والأرجيلة.
وعن الفصل السابع فقد كان بعنوان (ثقافات تقليدية ومتجددة في عمان)
إذ ذهبت د.عايدة للعرض المعاصر والذكريات حول: ثقافة الطعام من طقوس وادبيات, وثقافة الأطعمة السريعة: الهامبرجر والكوكاكولا وتوابعها, وعن المجتمع الاستهلاكي الذي يأكل كثيراً!! وعمان التي تحب الحلاوة, والرجل داخل المطبخ, وثقافة الخبز وهاجس السياسة, واختفاء طبلية الفران، وعن ثقافة الازهار ورائحتها حيث باعة الزهور ينشرون السعادة في عمان.
والفصل الثامن كان بعنوان (أسواق المدينة من نوع جديد) حيث المولات العصرية, وبعضها التي تحتضن دور السينما الحديثة, ثم ترجع الى ماضي السينمات القديمة.
فقد ذهبت الباحثة الميدانية النجار الى الأسواق الشعبية في وسط البلد بعمان وبالذات لشارع الملك طلال لترى كيف أصبح حالها.. ولتتذكر أيام صباها.. وهل ما زالت تلك المحلات الشعبية تتحدى المولات؟!.
وكذلك للبحث عن المهن التراثية في عمان !! لكن العديد منها اختفى!! فمهنة الخياطة والتفصيل تهمشت!! كذلك منجّد لحاف العروس!! وبقي القليل من صانعي فروات برد الشتاء, وصانعي سروج الخيل الاصيلة وأدواتها، ولم يُجدِ البحث عن مبيّض النحاس!!! وأم حسن التي تشحذ السكاكين!! والأحذية صُنع اليد اختفت, واستوديوهات التصوير التي حملت الذكريات الجميلة لم يبق منها إلا القليل النادر.
وفي الفصل التاسع (عودة الى قاع المدينة) هناك بعض الحكايا عن المهمشين في وسط البلد مثل الامبراطور نابليون بونابرت- رمضان- الذي كان يحتل السوق, وعن صاحب الشعر المنفوش المثقف, وسقراط الذي كان يتفلسف في عمان!!!.
وليد سليمان