خرجت من البيت صباحا ومزاجي السيء يتلبسني كما كان خلال أيام السنة المنتهية.
و أتساءل: كيف يكون المزاج جيدا، وقد عشنا- وما زلنا- أياما عصيبة متتالية. وهل ينسى أحدنا أحداث غزة ؟ بل صور الدمار التي ما زالت تقبض القلب كل ساعة من ساعات الأخبار التي تجري» جردا «لأحداث السنة المنهزمة.
فكلما نحاول النسيان يطل علينا واقع أليم، ليس شبحا بل حقيقة مأساة حدثت للإنسان خاصة الأطفال الذين ماتوا أو حرموا من طفولة طبيعية في بيت وعائلة فيها أم وأب وإخوة وأخوات . فيها حاكورة، وزرع , وفيها طفلة تحمل دميتها , مشهد الطفلة تحت الركام , ورأس الدمية مقطوع لم تفارقني , تذكرني بها وسائل الإعلام الذي تسترجعها في نشراتها المتواصلة. وتساءلت: هل يمكن مسح هذه المأساة من الذاكرة و كيف؟
تغيّر مزاجي فجأة وقد تركت البيت، وابتعدت عن التلفاز, إلى مكتبة قرطاسية في الحارة , انتظرت صاحب المحل المشغول مع رجل يتكلم بـ«لهجة بدوية«أصيلة», يلبس الزيّ الريفي , والجبة الدافئة، مع طفلة سمراء تلبس فستانا أحمر, مربوطا بزنار على خصرها النجيل مثل الفراشة الجميلة، تبدو ذكيّة وعيونها تلمع .
الأب والطفلة ذات السنين السبع تستعد لدخول الصف الأول الابتدائي، يتبادلان الرأي في اختيار لوح أسود صغير وأقلام , ودفاتر , ومحايات ومسطرة ودفتر رسم . كانت البنت متحمسة لانتقاء ما يعجبها, وتفضله عما ينتقيه والدها , وهي تقول: هذا .. أحلى .. هذا . أحلى » .
نظرت اليّ بجرأة بريئة، «مش هيك يا خالتي ؟»، ربّت على رأسها وقلت نعم ذوقك رفيع فابتسمت وخرج شعاع محبة من عيونها البدوية العسلية .
ضحك الوالد، وقال لها خذي ما تريدين , وبحنان الأب الوقور، حضنها وسألها هل تريدين شيئا آخر ؟ قالت: «مسّاحة للوح الأسود» وكم تعكر مزاج الوالد عندما علم أن المسّاحة غير متوافرة . طمأنتهم أن بإمكانها مسح اللوح بأية قطعة قماش ، ما أعاد البسمة للطفلة البريئة والأب الحنون, وتمنيت لو نستطيع مسح آلامنا كما الأحرف على اللوحة السوداء.
سعدت من هذا الحدث , الذي أقحمت نفسي به بسعادة وحس فضوليّ . فالزائر لعمان مع البنت من( الكرك )جاء للمدينة في عمل خاص , وأصرت البنت مرافقة الأب , لأنها البنت الصغرى وتستعد لدخول المدرسة , ولذلك يشتري لها كل ما تحتاج من عمان و لتكون مميّزة , رغم وجود كل ما يحتاجونه في مدينتهم النامية . فالبنت تستعد لكي تصبح طبيبة كما قال الأب , «هي تريد ذلك و أنا ايضا». ! هل تلوموني اذا ما تغيّر مزاجي للسعادة .؟ هذا الأب الحنون و الطفلة في بداية طفولتها تريد» مسّاحة «اللوح الأسود », كي لا ينقص عليها شيئا في استعدادها لعالم المدرسة والعلم مثلها مثل الولد وتحقيق الاحلام بغد أفضل في الأمن والامان , تستعد منذ الصف الأول أن تصبح «دكتورة ».
ما يطمئنني على هذه الطفلة أن«التعليم الالزامي» الذي وفر للحميع منذ وضع قانون التعليم الالزامي 1955 , سيّوفر لها جزءا مضمونا من التعليم في مسيرتها التعليمية, والأهم أن والدها أطال الله عمره , يحلم معها أن تنهي المرحلة الثانوية, «غير الاجبارية» .
الا أنني أدعو من كل قلبي أن تتمكن هذه البنت الحصول في التوجيهي على معدل 99% في العلوم لكي تدخل كلية الطب , وليتم تحقيق رغبة وطموح الاثنين لتصبح دكتورة إذا لم يغيّر هذا النظام قبل وصول الطفلة تلك المرحلة. نعم لقد أصبح التعليم والتخصص في المهن الصعبة , حلم الجميع , وليس مقصورا على الأولاد كما كان في السابق . شئ جميل يحصل في مجتمعاتنا ,و على الجميع تعزيز التغيرات رغم ما فيها من المفاجات والفوضى والحروب . وفي نهاية هذا العام أوجه لهذة الطفلة ذات الفستان الأحمر والأب الحنون كل المحبة والتحية . البنت والأب اسعداني , وغيّرا مزاجي ولا يسعني الا أن أدعو الله أن يحقق حلمهما الجميل , اطال الله في عمرهما .