لم أنس مطر عمان أيام زمان في الخمسينيات والستينيات ، عندما كانت تتسلل خيوطا فضية من  بين الغمام الممزوج بالأبيض والأسود لينزل من السماء كحبات اللؤلؤ . كنا  في سن المراهقة ، نحل الجدايل لنروي شعرنا من مطر أول شتوة ، مستسلمين لنقرات “ حب العزيز “على رؤوسنا بينما أرجلنا مثبتة بالأرض الطينية في كثير من الشوارع . لم نخف المطر ولم نخف “الخبص”ولم نخف البرد ، لأننا كنا نعرف حدود فرحنا وحدود آلامنا وحدود حزننا .  كنا نمشي من جبل الحسين اللويبده ومن طريق المحطة وجبل القلعة والنظيف والوحدات ، ومن شارع المهاجرين ، ومن قاع المدينة  شارع الشابسوغ عند موقف باص الزرقاء باتجاه  موقف الباص المتجه لجبل عمان أجمل الجميلات وبالتحديد  لمدرسة زين الشرف والكلية الاسلامية ، ومدرسة المطران . كنا نتكوّم من  بنات وأولاد أمام محلات دمياني، والدباس، وحداد ،شعشاعة  لحين وصول الباص  لكي نبدأ بالتسابق لأخذ المقعد الذي نصنفه درجة أولى في مقدمة الباص لنر الصاعد والنازل ، عينك ..عينك أو بواسطة المرآة المثبتة فوق رأس السائق .


تذكرت هذه الصورة ال التي لا زالت جميلة رغم اختلاف  زماننا الذي وصفته في كتابي ( بنات عمان أيام زمان ) على لسان بنات  وأولاد عمان أنه كان” أجمل أيام العمر” . “فحادثة “ الأمطار الغزيرة قبل اسبوع من اليوم  التي كانت  الخبر الأول لكل وسائل الاتصال الاجتماعي ، والأحاديث والجلسات العائلية ، لا بل العالم كله ، قد حفزتني لأعود لذاكرة عمان التي أحب .


بالطبع لن ألوم السماء ، وأنا أعود لفرحة نزول الامطار التي كنا  ننتظرها أيام  عمان البسيطة بشوارعها ودكاكينها من غير مولات . اليوم لن ألوم أحدا على الكوارث الطبيعية ، ولكنني كغيري أتحفظ على بعض الاستعدادات لعمان اليوم وليست عمان التي عشنا فيها” أجمل أيام العمر “ . عمان اليوم أصبحت أكبر عمرا وأكبر جسما وأكثر تعقيدا من عمان الأمس . فهي أيضا جميلة نحبها ، ولكنني خفت على “عماني “أيام زمان  عندما سمعت أن المياه الغاضبة التي حمات السيارات والباصات ومن فيهم لكي يخافوا بدل أن يفرحوا وهم في الطريق لهدفهم. خفت على عمان قاع المدينة التي قد تصلها المياه من كل حدب وصوب ، وخفت على شارع المهاجرين ودكان المنجد التي تنتظر العروس “ لحاف العرس “ مع أمها باب الدكان . وخفت على مطعم هاشم وكنت ناوية أن أتناول” وجبة دسمة “من الفول والحمص لتجديد ذاكرتي عن قاع المدينة ، وخفت على موقف الباص أمام محل الدباس ودمياني الذي يحمل رصيفه جزءا من ذاكرتي وذاكرة جيلي .خوفي هذا لا يجعلني حبيسة مشاعري وعواطفي  .


لا بد من القول إن عمان كانت قرية كبيرة وأصبحت اليوم مدينة كبيرة عصرية . وقد تمكنت الوصول  لذلك  بعد أن تطورت وتوسعت . وبهذا التطور ، نشأت أيضا مشاكل لم تؤخذ بالحسبان كما يبدو لمثل هذه المفاجأة “ المطرية “. فالانفاق التي انشئت لتخفيف أزمات السير ، بعضها غرق أيضا ولفظ أنفاسه من كثرة المياه , ولن أتناول أمثلة أخرى كثيرة ، إلا أنني توقفت عند مقالة (الاستاذ فهد الخيطان  ، “تقسيم عمان “ ، الأحد 8 نوفمبر) ، لأقرأ اقتراحا وجيها ، وهو لأن عمان أصبحت عمان الكبرى ، فلا بد أيضا أن تتغير طرق ادارتها .

ولا شك أن هذه فكرة عملية وضرورية . فكما نعرف فعمان مقسمة الى عمان الشرقية  وعمان الغربية , وتوسعت ايضا لتكبر حدودها الى الضواحي .  وقد يكون من المفيد والعدل أيضا ، إعادة النظر في التقسيمات الخدماتية والموازنات ، والبحث عن أفضل الحلول التي تنصف الفقير والغني ، والساكن على  الجبل أو في القاع أو في طريق المطار أو الزرقاء . وليت هذه الأمطار تعيد سيل الزرقاء الذي كان  يسير من عمان الى الزرقاء  ويروي الحواكير ويحيي المنتزهات في الرصيفة والزرقاء التي كانت قبلة أهل عمان للتنزه .  ما حصل في عمان ليس جديدا إثر الهجمات الغاضبة للطبيعة وقد تكون بداية لتطبيق القول “ رب ضارة نافعة “ ، من أجل الحلول التي تؤمّن سلامة عمان العتيقة وعمان الجديدة ،وسلامتك يا عمان التي أحب!!

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment