في صالون وادي الطواحين الثقافي وجمعية احياء التراث والفنون في كفرنجة البعيدة القريبة من عمان كانت لي تجربة مميزة ، وقد لبيت الدعوة لالقاء محاضرة بمناسبة صدور كتابي الجديد الموسوم ( لفتا يا أصيلة : خريفية قرية ) . كان عنوان المحاضرة ( مجتمع القرية : لفتا المقدسية نموذجا ).ولفتا هي إحدى القرى الفلسطينية المهجرة والمدمرة 1948. عدت اليها في الكتاب كما في الحوار الثقافي مع الحضور ليتبين أن مجتمع القرية في فلسطين والأردن متشابها لأن” خريفيتها “ أو حكايتها كانت عن القرية عندما كانت حيّة وجميلة ببريتها وشجرها ودورها وناسها الذين صنعوها لتصبح إحدى ضواحي القدس الجديدة .
في الستينيات بعد تخرجي من الجامعة . عملت في الريف الأردني من خلال قسم الإرشاد الزراعي في وزارة الزراعة . كان هناك مشاريع تتعلق بارشاد المرأة لتنمية حياتها الريفية . وشمل المشروع أنذاك قرى الضفتين الشرقية والغربية ، حيث قسمت الى ألوية . كنت رقيبة المرشدات اللواتي يعملن في قرى البلقاء والكرك، وكان هناك أيضا رقيبات زميلات مسؤولات عن سير عمل المرشدات في لواء أربد ، ولواء القدس ، ولواء نابلس . و ما زالت تلك التجربة مع الناس في الريف هي الأبهج والأهم في ذاكرتي العملية مع الناس الطيبين .
كانت القرى تتمتع بنسيج اجتماعي متكامل ونشاطات .التكامل الاقتصادي الحر وكانت أسعد الأوقات لدي عندما أعود من زيارة للقرى وأنا أحمل الخضروات الطازجة وخبز الطابون والبيض الطازج الذي كان يذكرني بحياة الطفولة في لفتا وكأنها امتداد لهذه الحياة الجميلة التي تشعر الانسان بالحرية والقناعة والاصالة .
سعدت بزيارتي لصالون وادي الطواحين الثقافي في عجلون الجميلة ، وقد تعرفت على نشاط مجتمع القرية الدافئ الذي لم يفقد أصالته . وقد رحبت بي السيدة انتصار الخطاطبة والاستاذ رمزي الغزوي ، وأعضاء الجمعية والضيوف . شعرت أن عادات الكرم الريفي المعروف لا يزال قويا وحيا . ولعل المكان الذي اقيم فيه النشاط لهو خير دليل على هذه الاصالة . درجات في حارة الطواحين أخذتني الى بيت تراثي قديم حوّل لمتحف محليّ فيه عبق رائحة الاجداد . فرشه ريفي تقليدي ، البسط الصوفية المدودة غزلتها الجدات بالايدي المنقوشة بالحناء ، سقفه من خشب عتيق وجدرانه مزينة بأطباق القش والقناديل العتيقة ، تحميها قنابيز الرجال وشماغات الاجداد ، والاجمل كان عندما قدم الطعام التقليدي اللذيذ( المجدرة )على اطباق الجدات الملونة المصنوعة من القش التي قدمت مع الخضروات الطازجة . وكان ذلك في جو جميل تجلس فيه النساء والرجال في جمع عائلي حمييّ . وقد استذكروا حياة القرية ايام زمان والتي لا تختلف عن قرية لفتا أو القرى الأردنية والفلسطينية الأصيلة .
أما الحضور فكان مميزا ، فقد بيّنت المداخلات لعدد من النساء والرجال عن ثقافة تدل على ما وصل اليه اهل الريف من تعليم ومشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والاجتماعية والسياسية الواعية والوطنية. ولا عجب في ذلك فهم احفاد اولئك الرجال ابناء العشائر الذين كانوا يمدون الفليسطينيين بالسلاح والمشاركة في ثورة 1936 عندما كانوا يتسللون لمهاجمة البوليس الانجليزي الذي رأوا فيه عدوا مشتركا للأردن وفلسطين كونه صاحب وعد بلفور ، المتخيّز للصهيونية ، ومن بين هؤلاء الرجال : عبد العزيز ارشيدات ، وصنحي النابلسي، و موسى العبد الله ، ومحمود أبو عماد ، وعمر السكران ، وأحمد الجيزاوي ، وابراهيم عبيدات ،ومحمود ابو غنيمة ومحمد السعد البطاينة ، وعلي ملكاوي ، محمد السمرين ، وأحمد التل ، وأسعد شرار ، وابراهيم عبيدات وغيرهم . كان مصطفى وهبي التل ( عرار ).مراسلا لجريدة( الكرمل )الصادرة في حيفا ، وقد سجلت الكثير من نشاطات الوطنيين .
نحن نعيش اليوم في زمن سريع التغيّر ، بما فيه من ايجابيات وسلبيات ، فمجتمع القرية كان له خصوصيته إذ كان يتكامل في بعضه مع مجتمع المدينة ، إلا أن التكنولوجيا الحديثة اليوم ونمط الحياة قد أثرت على كثير من العادات والتقاليد . ولا شك أن مثل هذه المراكز الثقافية في القرى التي تهدف لحفظ التراث الشعبي واسترجاع حياة الاجداد لهو نشاط ضروري ويجب تشجيعه ودعمه بكل الوسائل في كل القرى العامرة في الاردن أو الغائبة الحاضرة بفعل الاحتلال . وهذا ما قمت به في كتابي لفتا يا أصيلة . .القرية التي كان لها حياة وهوية وتراث قبل أن تهدمها اسرائيل وتهجر أهلها منذ 1948 .