يلحظ المتتبع لمؤلفات د.عايدة النجار التزامها الوثيق بالعمل التوثيقي دون أن تتقيد بأسلوب التوثيق المنهجي أو التاريخي، ولكنها بشغف وحبّ كبيرين تنهج نهجاً جديداً ذاتياً تقارب فيه التاريخ الزمني بتاريخ وجداني، وتتكئ على ذاكرتها الخاصة، مبتعدة عن لغة التاريخ الجافة؛ لترسمه بلغة أدبية بسيطة تتسم بالوجدانيات وهي تلاحق الموجودات والمفقودات.
وتلتقي في لغة النجار، عناصرُ الزمان والمكان والشخوص والأحداث، وكأنها تكتب رواية أدبية بمفردات وثائقية، أو رواية وثائقية بلغة أدبية، فيلتقي التاريخ الشخصي بتاريخ الأمة، ويلتقي الخاص بالعام، والتاريخ بالجغرافيا، والأصالة بالمعاصرة، وتتصل عبر لغتها القريةُ بالمدينة، والصغيرُ مع الكبير، والميتُ مع الحي، والمندثرُ مع الباقي، كل ذلك يتم عبر لغة سهلة سلسة تنقلك من مشاهد شاهدة على الزمان والمكان إلى مشاهد راوية تروي بحب وعشق عما كان وكان في ذاك الزمان.
لا يخلو أيّ عنوان من عناوين مؤلفاتها من اسم المكان (القدس والبنت الشلبية، بنات عمان أيام زمان، عزوز يغنّي للحب: قصص فلسطينية من ألف قصة وقصة)، وهذا يُظهر وفاءها لكل مكان عاشته وعاش فيها، فلا فرق بين فلسطين والأردن، ولا فرق بين القدس وعمان، فثمة مكان، وثمة قصة، وثمة حب بلغة عايدة النجار الوفية لماضيها وحاضرها، حيث تلتقي عايدة النجار الكبيرة بعايدة النجار الصغيرة حيث كانت طفلة، ولذا تراها تنطلق من المدرسة كمكان، وتجعلها مبتدأ ومنتهى، وتنطلق بها وتعود إليها، لتروي قصة البنت الشلبية في القدس، وقصص بنات عمان أيام زمان، إذ تجد في المدرسة المكان والملاذ، وتجدها بئر الحكايات والمرويات.
فمن المدرسة، والطريق إليها، والعودة منها، تنطلق كل الحكايات، فالمدرسة مكان معماري وحضاري، فحيث تكون تتضح المعالم، وتعنون الأمكنة الأخرى وتحدد، وبوجودها يتحدد وجود جديد، فثمة علم، وثمة حب، وثمة بيت تحول إلى مدرسة، وثمة شارع فُتح إليها، وثمة بقالة ومكتبة تجاورها.. المدرسة وحدها تحكي قصة المدينة والبلد، وتروي قصة التحول من الأمية إلى العلم، وتناقش قضية تعليم الأنثى وتحرير المرأة، وقضية التعايش بين الجنسيات المختلفة للطالبات، وتحكي قصة المعلمة والطالبة، وتروي تاريخ العائلات المتعددة.
وتبقى اللغة لغة حب، ومَعلماً بارزاً في كل مؤلفاتها، وسمة أساسية تلامس مسامات حروفها ومفرداتها، وهي تعنون أو تهدي أو تسرد حكاية مكان أو إنسان في ذلك الزمان.
فمن لغة إهداء كتاب «بنات عمان أيام زمان» نقتطف قولها: «إلى جيل الشباب أحفاد الخمسينات وأجداد المستقبل، في عمان الجديدة، اليوم متجددة الشباب والعطاء… عله يقرأ الماضي والحاضر والمستقبل في (مكان وزمان) متغير، وليواصل السيرة والمسيرة مع عمان التي نحب.. أهدي هذا الكتاب».
فليس غير الحب جامعٌ للماضي والحاضر، وليس غير الحب رابطٌ بين جيلين، وليس غير الحب واصلٌ بين السيرة والمسيرة حيث يحدد معالمها.
وفي كتاب «القدس والبنت الشلبية» نجد لغة الإهداء بهذه المفردات:
«إلى روح أمي التي علّمتني الحب والأحلام
إلى بنات ورجال فلسطين في القدس وكل المدن والقرى
وأينما وُجدوا في الشتات.
إلى القدس/ المكان الذي يسكن في عيون وقلوب من أحبوها لتبقى (زهرة المدائن) التي يغني لها الناس في أنحاء المعمورة: يا مدينة السلام».
ففي مفردات هذا الإهداء تتجلى صورة الحب والوفاء والحنين، فتلتقي روح الأم التي تلمّ وتضم وتجمع مع روح القدس أمّ المدن والقرى والتي تجمع وتضم المدن العربية والإسلامية، لكنها على حبها وفيها من الأصالة والقداسة ما يجمع الناس كل الناس على حبها، كما يجمع الأبناء كل الأبناء على حبّ الأم.
لا تؤلف عايدة النجار حكاية في كتابيها «بنات عمان أيام زمان» و»البنت الشلبية»، لكنها تؤالف بين حكاية وحكاية، تستدعيها لتوثيقها وتأريخها وحفظها من الضياع وتستدعيها من الذاكرة الشفهية لتدونها في الذاكرة المكتوبة لتخلد أبداً.
لذا نجدها لا تستند إلى ذاكرتها فقط، بل تأتي لغتها السردية مستندة لقائل أو لقائلة، وتكثر أفعال الروي بمفردات: (أتذكر، قال، تتذكر) وما شابهها:
«وأتذكر، وكنت إحدى المراهقات المحبة لكل جديد…» (بنات عمان، ص23).
«ويتذكر منذر عناب…» (بنات عمان، ص42).
«تتذكر فتحية عثمان حسن…» (بنات عمان، ص51).
أما في كتابها «عزوز يغني للحب: قصص فلسطينية من ألف قصة وقصة» فإنها تؤلف قصصاً من واقع حقيقي عاشته مع ابتداع خيال يستدعيه الجنس القصصي، لتقف هذه القصص مع مؤلفيها السابقين كوثائق شاهدة على المأساة، وليتعزز هدف الكاتبة وكما تصرح: «وهو تخزين ما يجري من أحداث تحت الاحتلال لكي لا ننسى ولا تنسى الأجيال القادمة الأرض والإنسان» (من المقدمة).
يظهر المكان جلياً في مؤلفات عايدة النجار جغرافياً وتاريخياً، ويتأنسن إنساناً محبوباً وحيوياً، ويظهر بطلاً وطللاً، وتبدع عايدة النجار في استدعائه واستدعاء الحواس كلها التي تصاحبه، حيث الرائحة والنكهة، وحيث المَعْلم والعلامة المميزة له، وحيث الصوت والصورة، وحيث اللغة الهادرة أو الساكنة فيه، فثمة سوق وباعة، وثمة مدرسة وجلجلة طلبة، وثمة مقاهٍ ومشافٍ، وحدائق وشوارع وأدراج، فتحضر لغة الكبير ولغة الصغير، فتظهر اللهجة العامة حيث العامة منتشرون بلهجاتهم المتعددة، وتظهر الأغاني والأهازيج في الأفراح والأتراح، وتظهر لغة الأدب والصحافة والسياسة والمسرح حيث يكون الحديث عن أماكنها.
ويؤكد د.إبراهيم السعافين وهو يقدم كتابها «عزوز يغني للحب»، تلك «الألفة الحميمة بين الكاتبة والمكان، فقد استطاعت أن توحد بين ذاتها وبين المكان وناسه، وأن تقدم لنا صورة عن المعتقدات والعادات والتقاليد والتاريخ والأزياء والطقوس وتشكيل المادة، لقد بدا المكان عنصراً أساسياً في تشكيل هذه القصص، بل لعله بدا البطل الذي تتحرك فيه ومن حوله الأفكار والأحداث والشخصيات».
لقد ارتبط المكان بالذاكرة والحنين، وهذا ما فرض لغة حب وجدانية، ولغة أدبية سلسة دفاقة، تجعل الذاكرة بئراً تغرف منها، وسنداً ترتكز عليه، ولعل مفردة الذاكرة ومشتقاتها من أكثر المفردات تكراراً في كتب النجار:
«وظلت هذه الأقوال في ذاكرة نساء المدينة» (البنت الشلبية، ص116).
«وتذكرت بعض الجدات عادات وتقاليد…» (البنت الشلبية، ص116).
بل تسمي فصلاً من فصول كتابها «القدس والبنت الشلبية»: «قصور وأمكنة لها ذاكرة» (ص45-68).
وتسمي فصلاً من كتابها «بنات عمان أيام زمان»: «شعر وقصص من الذاكرة» (ص151-160).
فالمكان مرتبط بالذاكرة منسوج بلغة حب قوية:
«ظل للمدرسة محبة وحنين لدي…» (بنات عمان، ص10).
«أصبحت مدرسة أروى حضناً دافئاً ضمّني إليه في زمهرير الغربة والضياع» (بنات عمان، ص15).
كما كانت لغة النجار أمينة في نقل المفردة الأصيلة في مكانها وزمانها وفي نسبتها إلى صاحبها أو صاحبتها، وكانت لغتها أمينة في تسمية الأشياء كما كانت في ذلك الوقت، فكانت هناك أسماء للألبسة (القمباز، والساكو، والحطة، والعقال للرجال، والثوب الأسود العريق المطرز بالألوان الزاهية والتي تحمل صوراً لزهور ونباتات فلسطينية للنساء).
«وكان البرد يدفع الأكثرية من الطالبات للجلوس في الصف وهن يلبسن (البالطو) أو (الكبوت) الثقيل فوق المريول» (بنات عمان، ص36).
كما تذكر أسماء بعض النباتات وما رافقها من قصص كالقصص التراثية المرتبطة مع الميرمية وعلاقتها بمريم العذراء (البنت الشلبية، ص71)، وشجر الخروب والبلوط وارتباطه بالحب (البنت الشلبية، ص71)، وارتباط النخيل بالمقابر (البنت الشلبية، ص72).
وتذكر فيما تذكر أسماء الألعاب التي كانت منتشرة في ذلك الوقت: «وكانوا يصنعون طائرات من الورق يطيرونها فوق أسطح المنازل وكانت البنات يلعبن في الحوش (نط الحبل) و(الأكس)، وهو وضع الحجر بالمربعات لإيصاله للنهاية وبقدم واحدة» (القدس والبنت الشلبية، ص33).
ثم تذكر ألعاب «الزقيطة»، و»الغماية»، و»حامي بارد»، و»طاق طاق طاقية» (القدس والبنت الشلبية، ص33).
وجاء كتابا النجار «البنت الشلبية» و»بنات عمان أيام زمان» زاخرَين بأسماء الأمكنة والشخوص والبنايات والأغاني والكتب والصحف والمسارح، محافظَين على الاسم القديم ومشيرَين إلى الاسم الجديد، مما يؤكد وثائقية العمل بصدق اللغة في الاسم والمسمى، والوصف والتوصيف، ومع هذا فإن لغة عايدة النجار تجنح إلى اللغة الأدبية وهي تعاين وتصف، وتقارب وتقترب من المكان والإنسان والأشياء، فلا تخلو جملتها من وصف جميل وتشبيه بليغ:
«تبدو المدينة العتيقة داخل الأسوار سعيدة بحملها، فقد ظلت تحمل ذاكرة من وُلد فيها أو سكنها أو زارها في رحلة استشراق أو رحلة سياحية أو حج دينية» (القدس والبنت الشلبية، ص15).
«لم يكن جبل عمان وحده وجوار المدرسة قد تجمل بالحجر» (بنات عمان، ص40).
«ولم تنس البنات أبداً تلك الأدراج،وبشكل خاص ذلك المدرج الطويل الذي يبدو واقفاً لا يتعب» (بنات عمان، ص46).
«وكانت مدينة القدس المفتوحة رحبة الصدر والمحطة الأهم في حياتها» (البنت الشلبية، ص266).
من كل ذلك نلحظ أن لغة عايدة النجار لغة واثقة وهي توثق، ولغة أدبية وجدانية صادقة وهي تعاين وتحن إلى مكان عاشته وعاش فيها، وهي تستعيد ذكرى مكان إنسان، وتروي للجيل الحاضر ما غاب عنه أو غيب عنه، فقد جمعت في كتبها صلاتٍ كادت تنقطع، وأكدت على أواصر المحبة التي تربط بين الشعبين الفلسطيني والأردني، وأكدت أن ذاكرة الكبار سلاح لا بد أن يتمسك به الجيل الحاضر للفخر والزهو والانتصار.