تدور حكاية كتاب “بنات عمان أيام زمان” في فضاء مكاني له مداه المؤطًّر ، يتمركز في عمان ، ويطوف بين القدس شقيقة عمان والزرقاء جارتها.. وهي “ذاكرة المدرسة والطريق” في خمسينيات القرن العشرين. ويباغتك الكتاب ببوح شفيف يسعف الروح.. ويشعل جذوة الشوق.. يتكئ على رائحة ذكريات فواحة العبير.. عن المدرسة والطريق إليها.. يتجرأ على الدخول إلى ذاكرة صاحبته وأقرانها وقتذاك.. وتسعفك رشاقة الكلمات والجمل باستباحة روح الفرح والحنين الممتلئ بالحب ، ذاك الدثار الحميم الذي سافرت النجار بروحها خلاله إلى تلافيف عمان الجميلة.
يحوم الكتاب حول فن السرد القائم على الحكاية ، والتي تقترب من كل الأشياء حولها ، الأقران والمكان والذات.. وقد نظمت عايدة النجار في توليفة متناسقة سيرة الذات والآخر ، فجاء السرد شموليا في مجالاته ، اتكأ الذاتي والغيري فيه على المدينة عمان ، فانسحب الذاتي الإجتماعي على المكان والأقران ما منح المؤلفة فرصة البوح الشفيف الصادق بلا لجلجة ولا تردد. وقد بسط الكتاب مساحة السرد السيروي على مجالات الإبداع الأخرى الأدبية والثقافية والسياسية والعمرانية.
ولما كان الكتاب في قَصًّه السردي يستحضر ذاكرة المدرسة والطريق ، فهو سيرة الجماعة أيضاً ، فعايدة النجار تتحدث عن نفسها في استذكارها قريناتها وأقرانها والأحداث التي عايشوها ، وتعكس صورتهم وهي تتناول جانبا ذاتيا خاصا عايشته وتأثرت به ، وهذا مدخل آخر جميل ، قاوم في النفس ترددات النكوص عن السرد الذاتي في بعض المسكوت عنه في السيرة الذاتية العربية.
عنوان الكتاب مجبول بعبق الزيزفون والريحان.. ظننا خلاله أننا سنقرأ قصص الحب التي عاشتها بنات عمان أيام زمان.. فلطالما انتظرنا كتابا يستنطق ذكرياتهن.. فلم نخب ظناً.. فأخبرنا كم أدمنت بنات عمان حُبّها.. وعزفن على أوتار القلوب لحناً واحدا.. “موطني موطني”. هكذا هي عمان دوماً ، عاشقة ومعشوقة ، يملأ دفؤها الأرجاء ، ويسكن أزقتها وشوارعها وحواريها حنان فياض وكلف آخّاذ ، يحلو الانتساب إليها ، وسرد أيامها سيرة ذاتية: فردية وجمعية ، فعمان ليست ذاكرة مكان حميمة وحسب ، أنها نبض متجدد حلا لعايدة النجار أن تكتب سيرتها أو بعضا منها من خلاله ، وراق لها أن تنتسب في رحلة العمر لأركانه.. وقد صورتها عروسا بكامل بهائها.. صبية احتفت بها صباياها في خمسينيات القرن الماضي.. أخواتنا وأمهاتنا وجداتنا اليوم. ذكريات عايدة النجار شوق عيون تلمع.. فتلك التي اعتلت الأفق وتربعت المدى حباً.. ونثرته أقاحين وأزهار.. وأروتنا في ظمأ الشوق إليها.. عمان.. نبع الحب ولُحمة الأمومة. فسيرة عمان جسر الثقة الذي عبرته بناتها نحو الحياة ومعناها ، والحرية المسؤولة والعلم.. فتلال عمان ورباها شدت عزائم صباياها.. ليكبرن فيها ومعها. صورة عمان في الكتاب أقرب ما تكون إلى اللوحة الريفية بصفائها وبراءتها وجمال طلتها.. وقد كانت بناتها شاهد الوعي ورائدات التغيير.. فالجبال العمانية ، والأدراج ، ووسط البلد ، ومدارس بنات أروى بنت الحارث وزين الشرف.. وشواهد تلك الخطى صبايا عمان اللواتي كبرن فيها وكبرت بهن ، فالكتاب بعث لذاكرة المرأة عن عمان الخمسينات ، المتصالحة مع المرأة ، فأحبتها وترعرعت في ربوعها ، وتشكلت شخصيتها في أجواء الحرية والالتزام والانفتاح على المجتمع المحلي والعربي والعالم.
إن الحديث عن عمان الخمسينيات في كتاب عايدة النجار حديث الحنين والاشتياق والسرد الذي يشي بكل المكنون تجاه المدينة وناسها.. ثم هو حديث الممتن الذي يرغب بالبوح عما يعتلج في الصدر ويجول في الخاطر عن ذاك الحضن الدافئ والمكان الفسيح الذي تقبلّ سكانه بكل الحميمية والحدب.
تتماسك في الكتاب شحنات العاطفة والحنين ، وتتكافأ في صفحاته الشفافية والصدقية وحماسة البث ودهشة التوليفة ، فلم بنبُ الأسلوب السردي نشازا في جُلًّ الكتاب ، سوى ما أدركت المؤلفة ، حتماً ، ما لم يتح لها مراجعته من أمر الطباعة في مواطن نادرة من الكتاب ، الذي صدر عام الفين وسبعة في مائتين وسبعين صفحة من الحجم العادي عن دار السلوى للدراسات والنشر. وقد ضمنت النجار كتابها صوراً رافقت النص ومنحته آفقا أرحب بعث نبض المكانية والذاتية في الجانبين النفسي والمعلوماتي ، وقرب صورة الذكريات لست عقود خلت ، حيث اللونين الأبيض والأسود دونما رتوش وزركشات ، لتأتي الصورة مجردة صادقة على فطرتها ، فارتفعت رونقاً وألقاً واقتربت حميمية ودفئا صادقين.. وتسمرت أعيننا في ملامحها كثيرا ، ليس استكشافا وحسب ، ولكن للزمن الجميل الذي عاشته عمان وقصته علينا المتألقة عايدة النجار.
إن مغامرة الكتابة لا يدانيها تورطا سوى قدرة الاقتراب من طرفي المعادلة: النص والقارئ ، وهي مغامرة بدت محسوبة على نحو ذكي يستند على ركام معرفي وتجربة غنية أغنت الكتاب أيما غنى ، وحشدت له قرّاءً ومريدين ما يبعث على الجذل ويشبع رغبة الكتابة ، واستسصدار هذا الكتاب ، الذي تقبلته الأجيال العمانية التي عاشت زمكانية النصوص ، وتلك التي تلت ، باحتفالية ورضى. اسمان عزيزان بدأت بهما مدارس بنات عمان في الخمسينيات: مدرسة أروى بنت الحارث الابتدائية ، ومدرسة الملكة زين الشرف الثانوية. فأروى بنت الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم ، ابنة عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي أمُّ “أبو سفيان” ، كانت من ربات الفصاحة والبلاغة. والملكة زين الشرف والدة ابن عمان مولداً وترعرعاً وصاحب التاج فيها لعقود خمس ، عايش شاباً فيها خمسينيات عمان وناسها. وقد ارتبط الحنين عند عايدة النجار بالمدرستين ودروبهما ، فوصفت عمارتهما ، والطريق إليهما ومنهما ، وما يصادفها من أدراج صاعدة وهابطة شريانا يربط بين الروابي ، وشارع خرفان “أو الحارة العتيقة التي شكلت أول مظاهر جبل عمان الجديدة”.
وقد رصد الكتاب الأماكن في طريق المدرسة ، ووصفها وصفا انطباعيا ذوقيا ، فذكر المشفى الطلياني وسوق السيل والمسجد الحسيني وكنيسة الروم الكاثوليك وآثار جبل القلعة ، وهذا كله مهم في استحضار وصل الذاكرة المكانية المعاشة التي تؤصل الهوية وتعمق الارتباط بها. وقد فصَّل الكتاب في خصوصيات بعض الأمكنة مثل أرضيات صفوف المدرسة ، وهو مما يفيد في توثيق الذاكرة التراثية المعمارية لمدينة عمان.
وفي عنونة الفصل الثاني وشاية بحميمية المكان ودروبه ، وقصدية الإجلال والتعظيم ، وهو ما يكون عادة للمحج والأمكنة المقدسة. فالمدرسة التي بنيت عام اثنتين وخمسين من تلك الفترة ، كانت الأجمل والأعلى والمشرفة عما حولها وسط غابة من الأشجار الملأى بالحساسين والطيور الشادية.. وقد كانت الطريق إليها مزهرة وكأنها “مصاغ الصبايا” ، وهكذا.. وبمثل هذا الوصف تمضي عايدة النجار تنبش مشاعرها تجاه المكان ، وخصوصيته التي تقترب من الملكية ، وهو حس التحنان لتلك الربى والأيام ، وهو الوفاء لذلك العالم الحر الجميل ، ولتلك الذاكرة الناصعة ، التي تبعث المخزون حياً ، ففيها كبر الحلم على صعده الشخصية والعامة حتى غدا واقعا مشهودا.
وقد عرج الفصل الثاني على الأماكن التي تتقاطع طريق المدرسة معها ، مثل مجتمع المخيم واللويبدة والأدراج المتعبة والمحطة ثم جنبات الطريق إلى الزرقاء ، وقد عجت هذه العناوين الفرعية بالمعلومات الراصدة لتلك الجغرافيا الحميمة ، والتي تغير جل معالمها ، ولم يبق منها سوى القليل مع كل تلك النهضة العمرانية التي شهدتها المدينة ، وهذا ما يحفظ للكتاب مكانة الوثيقة الراصدة لحقبة الخمسينيات العمانية.
ويصور لنا الكتاب العلاقة الهرمية الذكورية في المجتمع العماني آنذاك ، والذي سادته المودة والتراحم وحدب الكبار على الصغار ، كما صور الكتاب مجتمع المدرسة على أنه انعكاس لتلك النمطية المجتمعية ، فكانت المديرة خانم رمز المهابة والهيبة ، تمتلك زمام الأمور ولها سلطة على كل مَن في المدرسة: معلمات وطالبات ، مما أسهم في توصيل ذلك الجيل من البنات في مدرستي أورى بن الحارث والملكة زين الشرف إلى أدوار مجتمعية وثقافية وحياتية يومية يعتد بها ، وهو دور منوط بالمعلمات أيضا ، حيث يصور الكتاب مدى القرب والحميمية بين المعلمات والطالبات ، ودرجة الجهود المبذولة في إعدادهن للحياة على صعدها كافة ، وفي ذات السياق فقد كان دور المعلمات دورا يتوسط العلاقة بينهن وبين المديرة ذات السلطة والمهابة ، وبين البنات اللوتي تهيأ لهن الاقتراب من أجواء الأنشطة السياسية والوطنية والقومية. وقد أسهمت المناهج المدرسية في تلك الحقبة في تعلم الطالب أساسيات القراءة والكتابة والحساب ، تاركة تعبير “ودروسا أخرى” لمخيال المعلمات والطالبات وفلسفة التعليم آنذاك ، ولكنها بطبيعة الحال منضبطة بمواد معلومة ، وترى النجار إنّ أهمّ ما يندرج تحت هذا التعبير ، التربية الوطنية ، والتي باتت ضرورة في ظل النزوح والانتداب ونشاط النهوض السياسي العربي ، الذي ولّد حًراكاً مجتمعياً واقتصادياً تقمّص لَبوس الحراك السياسي بحتمية المرحلة.
وفي الكتاب تعريج على مظاهر الحياة الخاصة بالشابة الأنثى في تلك الحقبة من تاريخ عمان ، وما يرافق سن المراهقة من تحولات نفسية وفسيولوجية ، وقد كان التعبير عن هذا السن بالمراهقة مزعجا في جانبه الاجتماعي لارتباطه في الأذهان بالطيش والانحراف العاطفي وهي ثنائية بين المصطلح والمفهوم الشعبي ما زال موضع نقاش حتى وقت قريب.
إن النسيج المجتمعي في المدرسة هو نتاج الواقع العماني آنذاك ، فقد كان في الصف تنوع جميل من الجنسيات الشركسية والفلسطينية والسورية والأردنية ، وفي ذات التسامح كان درس الدين مرادا للفتاة المسيحية مثلما هو مطلب للفتاة المسلمة ، لينعكس الجو المتصالح والواعي في تلك الفترة مع الدين والجنس.
ومن داخل مجتمع البنات تسرب لنا عايدة النجار ذلك اللهو البرئ وتلك العلاقات المتمناة بين الأقران بين الجنسين ، والتي كانت في جلها “أحلام يقظة” ، وقد انعكس من خلال تلك القصص صدق العاطفة وشفافية الأحاسيس ونبل الهدف أو براءته في أغلب تلك العلاقات ، وقد وجدت البنات العمانيات متسعا من الوقت في عيش تجارب حياتية يومية فبعد يوم المدرسة الطويل بفترتية الصباحية والمسائية كان الذهاب إلى السوق في شارع طلال وفيصل وسوق البخارية والتزاور في البيوت والتسلل إلى دور السينما متعة لا تدانيها متعة سوى تلك اللحظات التي تتجمع فيها البنات لسماع الأغاني أو حول فاتحة الفنجان أو تلك الشقاوات اللحظية داخل غرفة الصف.
وفي الجانب الآخر الجاد من حياة بنات عمان أيام زمان أنشطة القراءة والطالعة والكتابة والنشر وحماسة المشاركة في الحراك الوطني ، وفي برزت مراكز علمية وثافية ترددت عليها الفتيات مثل نادي الاردن والنادي الارثوذوكسي ، والمعهد البرطاني ، والكتابة في جرائد الحوادث والفكر والقلم لجديد. إن ما نهضت به الدكتور عايدة النجار يقر في النفس والوجدان ، أركانه عمان الحبيبة ، وسيدات عمان اليوم ، من بنات الأمس ، وقد خط المشيب علامات الوقار والكدح والانجاز. والكتاب فوق ذلك توليفة لطيفة بين السيرة الذاتية والغيرية والمكانية. وبعد ، فنحن إذ قرأنا الكتاب واحتفينا به.. لم تسكنا الدهشة ، قدرما تسربل الحب و”عباءات الفرح”.. فعمان اعتذارنا لكل الذين فقدوا الأمان.. فلطالما أقالت العثرات ، وبددت الخيبات.. إنها أول أبجديتنا في درس عناق الأرض.
د. سلطان المعاني