كلما قرأت نصّا أدبيا عن عمّان أعيش حالة متناقضة بين السرور والتوتر، وبين الارتياح والامتعاظ، والسبب كامن صراحة في أن هذه المدينة قد تأخر حضورها كثيرا في النصوص الأدبية عامة، وفي الفنون القصصية خاصة، وحضر غيابها في تقلبات النصوص الأولى وانحناءاتها واستقاماتها، وإن حضرت فطيفٌ عابر عبور الزاهدين، وهنا يتجدد توتري وارتيابي مجددا، واتساءل: هل ما تزال عمّان المكان وعمّان الذاكرة قاصرة عن التأثير في نفوس ونصوص باعثي الأدب؟!
إن مدنا أخرى لا نختلف على عراقتها، كانت وما تزال ملهمة لأبنائها وفاعلا أساسيا في تعمـّق قرائحهم الأدبية، فمثلا حديثنا عن بغداد يطول وعن دمشق لا ينقطع، وعن بيروت متدفق رقراق، ولكن ماذا عنك يا عمّان!؟
لقد تسيّدت عمّان جملة من النصوص الأدبية في العقود الأخيرة جعلت منها مادة محورية مستنطقة، فتكتظ الذاكرة بأعمال عظيمة لكتاب عظام، منهم: عبد الرحمن منيف ومؤنس الرزاز وزياد قاسم وسميحة خريس وهاشم غرايبة وجمال ناجي… وهي نصوص حضرت فيها عمّان بقوة لتجذرها أصلا في ضمائرهم الأدبية، ومع ذلك كان حضور عمّان متأخرا وخجولا بالرغم من أنها مدينة استثنائية التكوين والتنويع، رائعة التشكيل، وقد تعززت هذه الأحكام أكثر عند كل من يراها بعيني زياد قاسم في ”أبناء القلعة” (1990) أو بعيني سميحة خريس في ”دفاتر الطوفان” (2003) أو بعيني هاشم غرايبة في ”الشهبندر” (2003). ولكني اليوم أشعر بسعادة بالغة وأنا أحط رحلي عند كتاب صدر قبل أسابيع للدكتورة عايدة النجار بعنوان ”بنات عمّان أيام زمان: ذاكرة المدرسة والطريق” عن دار السلوى في 269 صفحة من القطع الكبير.
وأعترف أن هذا النص قد أرّقني كثيرا أثناء وبعد قراءتي المتمعنة له، أرقني من جهة أنه يمثل لونا قصصيا يجمع ما بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، ويمكن أن نعده سيرة جمعية، و =أرقني من جهة أخرى، معجبا، باستحضاره عمّان في الخمسينيات استحضارا حميما أصيلا نابعاً من لسان الشاهد لا لسان السامع، فكان استحضارا استثنائيا لعمّان القديمة في ثوبها الجديد آنذاك، في الخمسينيات من القرن المنصرم بمفرداتها وأدواتها اليومية وأناسها، فجاءت لونا مختلفا أشعرتني بأنني أمام جيل من الأدباء أورقت عمّان في كتاباتهم مكتملة النضج عليّة البهاء بعيدة عن الابتذال والإسفاف.
تتوزع هذه السيرة الجمعية ”بنات عمّان أيام زمان” أحداثها على مساحة أحد عشر فصلا، هي استنطاق أمين وحميم لحالة اجتماعية عامة أفرزتها عمّان قبل نصف قرن من اليوم، على لسان بناتها الطالبات في مدرسة أروى بنت الحارث ثم في مدرسة زين الشرف الثانوية، وجاء الاستنطاق على شكل استذكارات وتداعيات مدرسية واجتماعية تروى بصوت المؤلفة الرواية المشتركة في صناعة الأحداث وتوجيهها، فتسكب أطيافاً شتى من المعلومات التاريخية والاجتماعية والسياسية والتربوية بعيدة عن التسجيل الوثائقي قريبة من التشكيل القصصي عالي التشويق.
والكتاب في مجمله فكرة فريدة النوع، جريئة الطرح، انبرت له المؤلفة وهي بنات عمّان في تلك الفترة، فنابت عن بنات جيلها في عرض دقائق الحياة العمّانية آنذاك، فاتخذت من المدرسة مرتكزا لروي الأحداث وتطويرها وإنمائها، ومتخذة من نظرتها الشاملة والمتعمقة منطلقا لتحليل مجريات الأحداث وتنظيمها ثم عرضها.
وقد كشف العنوان أبعاد هذه السيرة، فالعنوان يجمع بين شخوص السيرة، ومكانها وزمانها وأسلوب روايتها، فالشخصيات بنات عمّان، والمكان هو عمّان القديمة، أما الزمان فهو الماضي المرتبط بالنضج والتفتح واليفوع، أما الأسلوب فهو الذاكرة.
لقد مثّل المكان عمّان دورا لا يقل عن أدوار الشخصيات الأخرى، فالذاكرة تنبعث من المكان لأجل المكان. وعمّان في هذه السيرة تنعقد فسيفسائيا بمفرداتها الصغيرة، مدرسة أروى بنت الحارث ومدرسة زين الشرف الثانوية، وسوق منكو، ومطعم جبري، وجبل اللويبدة،… الخ، إن هذه القيمة العظيمة المنعقدة من أجل المكان أكدتها الكاتبة منذ كلماتها الأولى في المقدمة: ”للأمكنة منزلة خاصة عندي، والمدرسة هي إحدى هذه الأمكنة التي أحببتها منذ الطفولة كالبيت والوطن. ظلت صورتها ومكانها الجغرافي محفورة في الذاكرة بلون زهري جميل يبعث على السعادة” (ص 9). وتتكدس الأماكن سراعا مع انسياب لغة السرد وازدحام التداعيات والتذكرات لتكتمل صورة عمّان المعيشة ابنة الخمسينيات -على الأقل في ذهن القارئ المعاصر- كيف كان لونها ومذاقها وهواؤها وعاداتها وتقاليدها المبشرة بمدنية متقدمة. والكاتبة في كل ذلك لا تهدف إلا لتسجيل الحيثيات من أجل الحيثيات المرافقة لأحداث السيرة ومجرياتها، فكثيرا ما كانت الحادثة منبنية على ذلك المكان، تقول الكاتبة: ”لا أنسى كيف كانت شقاوة البنات عندما يصلن لموقف الباص مقابل البريد. كن (يتسكعن) ويتفرجن على محلات (كليوبترا) لحداد وشعشاعة. وكان يعرض الملابس الجاهزة والمستوردة وادوات التجميل والحرامات والشراشف والسجاد، وما يخص المنزل كما كانت البنات يقفن للفرجة على محلات الدباس، الذي يبيع الأزرار، والكلف للخياطة” (ص 48). وفي معرض آخر تقول الكاتبة: ”وظلت ذاكرة بنات زمان ملتصقة بالمكان، ويتذكرن اهم الدكاكين التي كانت تبيع أدوات الرياضة (محلات اسعد) في شارع طلال، وكذلك (محلات باتا)” (ص 104).
لقد بذلت الكاتبة على ما يبدو جهدا هائلا في استحضار المعلومات وتذكرها والبحث عنها لتكمل المشاهد، فالقيمة في هذه السيرة لا تتمثل في التخيّل بقدر ما تتمثل في الاستحضار والتذكر ثم التقييم والتأمل، فنتج عن ذلك أن استعانت الكاتبة بأكثر من 850 علما ما بين زميلة ومدرّسة ومديرة ومفتش وقريب وسياسي و… فاكتظ المكان برواد أكثرهم لم يأت أحد على ذكرهم، منهم من هم على قيد الحياة والكثير منهم غادر قبل أن يسترسل في تصفح شيء من سيرته الجمعية، وهذا العدد الهائل، لا شك، يحتاج إلى جهد عظيم من التنظيم والإعداد ومقاومة النسيان، وتستدرك الكاتبة في نهاية الفصل الخامس قائلة: ”مثل هذا العدد الضخم من الأسماء، تتذكرها الطالبات السابقات عن شريحة كبيرة من المجتمع، بلا شك تؤكد أن مجتمع بنات المدرسة الثانوية، له خصوصية لم تنس مع مرور السنين، ويظل السؤال عن قصة كل اسم ومسيرته قبل أو بعد التخرج من مدرسة زين الشرف الثانوية أو غيرها، وعن الطرق التي سلكنها في حياتهن بعد تلك المرحلة المتجذرة في الذاكرة والتي يصفها البعض: أجمل سنين العمر” (ص 128).
وفي خضم زحمة المكان واكتظاظه لم تستغن الكاتبة عن خصوصيتها في الطرح، بل هي الراويــة الموكّلة بالأحداث، فترويها من منظورها ومن موقعها وزمانها، مرة كطفلة في المدرسة ومرة كمراهقة في الثانوية ومرة بوعيها الحاضر المسلّط على الماضي. لقد راوحت الكاتبة بين السرد بضميرها المتكلم تارة: ”أذكر، أحببت، قضيتُ، لا أنسى..”، وتارة بضميرها الجمعي مع زميلاتها: ” نعم تعلمنا من المدرسة ومن المعلمات، وفي موسم التطعيم و(السخونة) التي كانت تخيفنا، وكنا نتهرب من فحص الطبيب”، وتارة تغيب الكاتبة الراوية وتترك المجال لغيرها لتروي: ”وتسترجع الصديقات الذكريات من التي استرجعْنها”… ”وتتذكر ليلى الخطيب إحدى طالبات اربد هذه المناسبة”… ”ومثال آخر تقدمه أمل قدري”، وهكذا. إن مثل هذه المراوحات في ضمائر تقديم الأحداث لتعكس مسؤولية جماعية من مجريات هذه السيرة، فالعمل لا يقوم على ثقافة الصوت الواحد بل الصوت المتعدد.
كما أن لغة هذه السيرة لغة تقوم على الارتدادات الماضوية المعتمدة على تقنية التذكر، فكثيرا ما يسبق الأحداث فعل من أفعال التذكر والاستحضار: ”ولأن الزمن يتحرك للمستقبل ظلت الذاكرة هي الشاهد، وتتساءل بنات المدرسة السابقات عن سيرة حياة المديرات الرائدات اللواتي ساهمن في إدارة المدرسة” (ص 74)، وفي سياق آخر: ”ولأن للذاكرة حرية الاختيار لتخزين الصور الذهنية للأشخاص، ينتقينها لخصوصيتها..” (ص )79، ثم: ”وأتذكرُ كيف كنت أطلب من (فارس) سائق العائلة الذي سيرجعني للبيت في الزرقاء..”، وقد رافقت تقنية التذكر تقنية أخرى هي الرسائل، حيث اهتمت السيرة بعرض بعض الرسائل ذات الصلة المباشرة بالموضوع، كرسالة ”حورية سعيد المفتي” لوالدها الذي أوقف تعليمها فخاطبته برسالة عرضتها السيرة بنصّها وصورتها (ص 81).
وقدد عزّز قيمة اللغة في هذه السيرة ابتعادها عن اللغة التقريرية المباشرة في كثير من الأحيان، واقترابها من اللغة التصويرية الايحائية التي ساهمت في رفع سوية العمل الأدبية، ففي معرض تذكر الكاتبة لزميلاتها تعبر بقولها: ”وقد ظلت صورة بعض الوجوه قوية في المخيلة دون الرجوع إلى الصور الفوتغرافية التي التقطت لنا كتذكار في المدرسة” (ص 9)، لكن لغة السيرة بقيت عند هذه الحدود التصويرية البسيطة دون تعمّق في التصوير والإيحاء، وهذا يتناسب مع هذا النمط من الكتابة التي لا تعتمد كثيرا على التخيـّـل.
أما زمن السيرة فهو الماضي أولا وآخرا، حيث بدأت الأحداث المفترضة لهذه السيرة منذ أن سجـّلت الكاتبة للدراسة الأساسية في مدرسة أروى بنت الحارث بعد نكبة فلسطين 1948 وخروج الكاتبة من قريتها (لفتا) القدس واستقرارها في عمّان، وتستمر الأحداث حتى التخرّج من المترك، فهذا هو الحيز الزماني الذي تنشغل عليه السيرة، وقد سار التطور الزمني منذ البداية وحتى النهاية دون خلل أو كسر، وإن كان تطور الأحداث مرهون بالتداعيات والتذكر.
والحقيقة أن هذه السيرة ذات الفكرة الاستثنائية قد استطاعت وبجرأة أن تعيد تشكيل عمّان الخمسينيات بأسلوب قصصي لا تعقيد فيه، وقد شعرت عندها أن عمّان في أقلام باعثي الأدب قد تعزز حضورها ونهض من جثومه وبات يتحرك بتحرك صفحات العمل الأدبي وينمو بنموه، فكاتب واحد لا يستطيع أن يعرض هذه المدينة بنبض واحد، إذ إن لكل كاتب فهمه الخاص ورؤيته الثاقبة لهذه المدينة الاستثنائية.
بقي أن أشير، ختاما، إلى أن عايدة النجار لم يفتها أن تهدي هذه السيرة إلى ”عمّان الجديدية أمس” في الخمسينيات من القرن الماضي (المكان والإنسان) اللذين أصبحا عتيقين يحملان ذاكرة فيها عبق التاريخ، ثم إلى جيل الشباب أحفاد الخمسينيات وأجداد المستقبل، في ”عمّان الجديدة ” اليوم متجددة الشباب والعطاء.. عـلّه يقرا الماضي والحاضر والمستقبل في (مكان وزمان) متغيّر…. وليواصل السيرة والمسيرة مع عمّان التي نحب، وكأن عمّان له موعد متجدد مع أبنائها وأجيالها المتعاقبة يسلم كل جيل منهم إلى خلفه برسالة محفزة.
د.نضال الشمالي