الأخبار  التي تأتي من فلسطين كل يوم منذ عام النكبة 1948  رغم كآبتها  تبعث على الفخر لصلابة الشعب الفلسطيني وتحديه للاحتلال بشكل فردي أوجمعي  فهو  تحدي أهل الارض الأصليين لسارق الأرض الاستعماري  . . الأخبار المتتالية حملت مؤخرا خبرا أن اسرائيل تغتال البيوت وتمحيها لتطمس ما تبقى من الهوية والجذور المعششة بالجذور العميقة، ولكي تبني  المستوطنات على أنقاضها، وتغرسها بالعنصرية والكراهية . جاء الخبر أن إسرائيل هدمت بيت سيدي الحاج اسماعيل النجار في لفتا الفوقا . وبحسرة روى الخبر لنا على إحدى المحطات التلفزيونية الفلسطينية الحاج محمد سليم ابو ليل الذي ظل مغروسا في أرضه في أرض السمار وهو  يزور قرية لفتا مع عدد من الشباب ليتعرفوا إلى القرى المهجرة . ذكر بحزن أنها البداية في قتل بيوت لفتا الحميلة ومحوها من الوجود . اغتيال بيت سيدي  زاد حزني المتراكم على بيوت أهل فلسطين التي هدمت في كل مكان لتبنى عليها المستوطنات القبيحة، ولكي تبقى صورها، ذاكرة الأجداد للصغار يروونها وكأنها  قصص خيالية .

 صورة بيت  سيدي الكبير الجميل الذي يقع في حارة راس النادر في لفتا الفوقا  قرب حرش شنلر، إحدى ضواحي القدس، حملتها معي وأنا طفلة في رحلة الشتات ، وحملت ما يحيط  بالمكان من جيران وحياة الى الغربة حيث كبر الوعي والحنين للمكان والانسان . وكالكثيرين من أهل القرى والمدن،  كبر الحب والحنين  مع نضوج العمر، لا بل كبر  الشعور العميق للوطن وحقي بالعودة اليه كما حق أهل فلسطين، كإرث من الكبار للصغار الذين لم ينسوا .

 ظلت صورة البيت كما الرسم في كتبي عن القدس ولفتا حيّة  . سكن البيت الذي هدم، زعيم القرية مع عائلته الممتدة من زوجات وبنات وأولاد , كان للبيت طلة عالية يجمله كرميد أحمر يراه القادم من بعيد . يتكون البيت من طابقين وملحق وطابون في ركن تابع للبيت , يحيط به بستان واسع مزروع بالاشجار المثمرة وله سور . يفصله عن بيت ابنه المختار بعده علي اسماعيل النجار ساحة كبيرة “ بيدر “ كانت تجمع فيه القمح والشعير من أراضيهم في أرض السمار في القدس  والملتصقة بالشيخ جراح . حاكورة البيت الكبيرة كانت مزروعة بأشجار الخوخ والدراق والكرز، وقسم مزروع بالخضروات . وفي الركن “خم للدجاج “الذي كان يزود العائلة بالبيض الطازج .    في الحارة كان جيران أحباء، مختار حمولة غبن الحاج صقر شنك واخيه محمد عبد شنك . من الجيران أيضا كان اليونان والألمان والأرمن  والبهود، حيّ جميل يجمع الاطفال عصرا يلعبون الألعاب وترتفع الأصوات لتعمر الحارة والأهل سعداء . هذة اللقطة  المطبوعة في الذاكرة حملتها كما حمل من عاشوا في الحارات الاخرى في لفتا الفوقا والتحتا من صور ذهنية للطفولة الغاربة .

  بيت سيدي الحاج اسماعيل النجار الذي  أغتيل مؤخرا هو، تمهيد  لمصير بيوت لفتا التي  في طريقها للزوال، وفقا لمخطط استيطاني هيكلي لتوسيع مستوطنة (  راموت ) على حساب قرى لفتا وبيت إكسا وبيت حنينا تحت اسم( منحدرات راموت ) . المشروع سيتم تنفيذه باقامة 1435 وحدة استيطانية و240 وحدة خاصة وبناء مؤسسات عامة ( فلل ). سيمتد الحي الاستيطاني الجديد غربا باتجاه  وادي بيت اكسا وجنوبا باتجاه لفتا ، وهذا بالطبع يؤدي الى توسيع كبير في الجزء الشمالي الغربي الشرقي القدس، وهو أحد بنود خطة القدس 2020 التي وضعتها إسرائيل لتهويد القدس، وضواحيها، بل لتهويد فلسطين .

 ما تقوم به إسرائيل من هدم للبيوت كما بيت سيدي الحاج اسماعيل النجار،  وبيوت اهل لفتا التي مارستها إسرائيل منذ عام النكبة، حيث أجبرت أهل لفتا للهجرة القسرية يأتي في إطار سياسة التطهير العرقي . فقد أخلت البيوت وقتلت الناس من أجل اسكان عائلات يهودية بدلهم، مع سرقة محتويات البيوت وفرشها .  و قد جرى التمهيد لهذا المشروع  منذ عام 1996 ضمن مخطط يحمل الرقم 6036، يسمى مشروع ( الحرب على البيوت ) . ولجهود أهل لفتا أمام المحاكم، فقد أ أصدرت  محكمة للشؤون الادارية  في القدس قرارا عام 2012  بالغاء مناقصة لبيع أراضي لفتا وبيوت القرية للقطاع الخاص لبناء 222 وحدة سكنية استيطانية وفنادق ومركز تجاري . ويتبين اليوم ان هذا الالغاء جاء مرحليا ولحين الوقت المناسب مع مشاريع الاستيطان التوسعية، وخاصة وكما نرى اليوم في هذه الهجمة الاستيطانية المخيفة للقدس ومحيطها .

  جما ل لفتا وموقعها الاستراتيجي على شارع يافا المؤدي الى تل أبيب، كان وراء البدء  المبكر للتخطيط العرقي للقرية التي  استولت عليها العصابات الصهيونية. هذا المكر خلق لها اليوم أيضا مشكلة مع اليهود الذين أسكنوهم في بيوت لفتا الفوقا  وعددهم 56 عائلة وأصبح وضعهم أمر واقع . تحاول إسرائيل اليوم  إخلاءهم كما بيت سيدي لتواصل الفعل الشنيع  بهدم البيوت التي تحمل الهوية والتراث لتصبح أثرا بعد عين . نعم، هكذا يبدو بيت الحاج اسماعيل الذي  لن تزول صورته ولا صورة الجد من خاطري، ونحن نقبل يده يوم العيد قبل أن يعطينا العيدية، أو وأنا اتسلق على شجرة التوت الكبيرة العتيقة وشجرة الاسكدنيا التي كانت صامدة لتشهد على ما جرى للبيت قبل أن يهدم، ولقبر سيدي الذي كان في الحاكورة خلف البيت الذي هدم كما الكثير من البيوت التي تحمل الاصالة والتاريخ . هدم بيت جدي خطوة في اتمام اعدام بيوت لفتا الفوقا، ومن أجل النزول من المنحدر الجميل الى لفتا التحتا لاتمام تطبيق الخطة الاستعماربة . شعور عميق حزين مجبول بألم نفسيّ شعرته، وأنا أسمع صوت سيدى وأبي وأمي وعماتي وأعمامي  وأخواتي  والجيران .. لا تنسوا  البيت الكبير فجذوره ما زالت في باطن الارض . هدم البيت وأبوابه، إلا أن لفتا تظل عصية على الزوال، فهي تحرس القدس من بوابتين، البوابة الغربية التي تربطها بالساحل، والثانية البوابة التي تربطها بشمال فلسطين  , وهي الصامدة على ربوة علوها 700 م. عن سطح البحر، ولعل احاطتها بسبع قرى تشاركها بالتاريخ والاصالة، ما يزيدها عزوة،  كانت تخيف إسرائيل لأنها ظلت تشهد على هذا التطهير العرقي . لن تموت لفتا وإن  اغتالوا البيوت وأطفأوا نور الحارة، فسيظل صوت سيدي ينادينا .. لا تنسوا .. لا .. تنسوا    الصوت عال نسمعه،  ومع الاسف تقوم اسرائيل بهدم البيوت لازالة الهوية العربية وتغيير الجغرافيا والتاريخ لقرية لفتا، ويتم هذا أمام ناظر العالم وسمعه، وأمام ذلك البناء العالي الامم المتحدة التي تصم آذانها ..!! فهل من مجيب .؟

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment