ونحن نعيش في مقاطع من العالم الافتراضي الذي انتجته التكنولوجيا والاعلام الحديث ، استيقظت في ليلة رمضانية دافئة اثناء نوم عميق، حلمت فيه أنهم أوقعوا بالمجرم الذي أفسد الحب الرومانتيقي الذي أشاهده على إحدى الفضائيات في هذا الرمضان . استيقاظي كان ليس بسبب قلقي على مصير البطل والبطلة ، بل بسبب ضربات المسحراتي الذي يقول : “ اصحى يا نايم .. يا نايم وحد الدايم ..” .!!
سعدت لأنني عدت الى العالم الحقيقي لأستمع لإنسان حقيقي ، لا يمثل بل يسترجع صوت جده”. المسحراتي بتاع زمان “، فقد كان المسحراتي جزءا من الحياة الاجتماعية التي تحمل التراث لعدة ساعات في ليالي شهر رمضان الكريم ، رجل قوي يحمل طبلا كبيرا ، يلبس الطبل جلدا ناعما جديدا ليخرج صوتا عاليا . الصوت هذا فيه معان كثيرة تحمل رموزا اجتماعية ، بدأت بالغياب في كثير من مجتمعاتنا . هذا الغياب يعود الى تفسخ في النسيج الاجتماعي المتأثر بالتغيرات المكانية والبيئية والعمرانية ، إضافة الى العلاقات الانسانية . فقد كبرت الحارات وبعدت المسافات وكثرت وسائل النقل التي غيرت وسائل المواصلات من المشي الى استعمال السيارات ، كما تغيّرت العادات والتقاليد التي بدت للبعض من زمن مضى لا مكان لها في عالم التكنولوجيا سريع التغيّر . اليوم اخترعوا المنبه الذي يوقظ الإنسان في الساعة التي يريد ليتسحر أو يصلي ، دون انزعاج البعض من ضربات عصي المطبلاتي أو المسحراتي على جلد حيوان ميّت .
كان للحارة طعم آخر ، فقد كانت البيوت وداخلها أقرب لبعض وإن كانت الطريق بين البيت والبيت مظلمة والشوارع غير معبدة” تغتطس” الارجل فيها في الشتاء . ففي رمضان لم يمنع أم حسن من إرسال صحن التحلاة المملوء” بأم علي “ أو “الهيطلية “ الى جارتها أم أحمد وقت السحور لأنها خفيفة على المعدة . كانت لمة رمضان تعتبر من العادات الهامة التي تجمع الناس على أطباق الطعام من صنع النساء اللواتي كنت ينتافسن على تقديم كل ما هو لذيذ للأهل والجيران وليس كما في لمات اليوم الرمضانية التي يغالي فيها الناس بتقديم الاطباق التي توفرها المطاعم ، أو من مطابخ النساء اللواتي يقمن بذلك بشكل فردي أو جماعي كمشروع مدر للدخل، ويوجد منها الكثير الذي يوفر المعجنات أو المناسف .
تغير الزمن وتغيّر الانسان ، وكأننا نمهد في كثير من نشاطاتنا لاغتيال الذاكرة ، بل لتهميش التراث الذي يحمل تاريخ الانسان الاجتماعي غافلين عن الحقيقة بأن الحفاظ على العادات والتقاليد والطقوس وخصوصيتها التي تعيشها المجتمعات ، لا بد أن تبقى للاجيال القادمة كمرجع ومصدر لحياة مستمرة وإن تغيرت اليات التغيير أيضا . فالموروث الشعبي هذا يظل مادة لها رمزيتها التاريخية الاجتماعية وكيفية تفاعل الناس معها في المكان والزمان الذي سيصبح “الماضي “ . الحداثة والانفتاح على العالم وثقافاته المتنوعة والتي لها خصوصيتها لا يمكن وقفها ولا ينبغي ذلك لأنها تحمل التاريخ والماضي بكل ما فيه من انتاج معرفي وثقافي وابداعي وسلوك وحياة . فطبلة المسحراتي التي ايقظتني بعدما كنت أعتقد أنها اندثرت ، أسعدتني . رأيت فيها وسيلة تواصل اجتماعي في رمضان الذي له خصوصيته من عادات وتقاليد من جوع وعطش الى التعبد وتنقية النفس من شرور الحياة ومفاسدها والانسان يتقرب الى الله يسبح باسمه ليجمع الملايين في العالم الاسلامي للايمان بهدف واحد يدعو الى السلام والامن الانساني الذي نحن بحاجة له في زمن وصول العالم الى أعلا مراحل الاستعمار ، فكيف لا والحروب تقتل باسم الدين البرئ منها ، وتحرق الاطفال ، وإسرائيل ما زالت تقوم بممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين.
طبلة المسحراتي الذي اكتشفته في عمان المدينة التي كانت قرية صغيرة ، أسعدتني ، لأنه ذكرني بصحن” الهيطلية” التي كانت أمي أم عارف النجار رحمها الله تتبادله مع صحن “ أم علي “ صنع أم خالد الحاج حسن الجارة العزيزة رحمها في مثل هذه الايام من خمسينيات القرن الماضي عندما كان جبل عمان فيه حارة وجيران . كان رمضان “وأم علي “ التقليدية وسيلة اتصال اجتماعية وعالما حقيقيا وليس العالم الافتراضي ، ، وليس كما اليوم يتذوقها الكثيرون بتأثير برامج تلفزيونية تتسابق النساء عليها لتقليد” الشيف “ الذي استبدل بالأم أو الجدة . ولعلي وأنا أدعو للحفاظ على التراث الشعبي والاجتماعي ، أردد قول أمي وجاراتها .. “ساق الله على أيام زمان “ ، وكل رمضان وأنتم بخير .