قصص الناس ومذكراتهم والسير الذاتية والمشاهدات كلها تحمل الصفة الانسانية، لأنها تصوّر بشكل مباشر المدينة او المكان الذي يتفاعل فيه المرء.. بالاضافة الى ذلك تحكي المذكرات واقع المعيشة اليومية للناس، بما فيها من حياة وحركة ومشاعر واحلام وآمال.
ومن هذا المنطلق كتبت د. عايدة النجار بحثها (عمان بين الغزل والعمل) هذا العام 2019 ليكون مكملا لعمل سابق قامت به عام 2008 وهو (بنات عمان ايام زمان: ذاكرة المدرسة والطريق) الذي توقفت فيه عند حقبة الستينيات من القرن الماضي.
وتعود الدكتورة عايدة لعمان الماضي القريب والى الحاضر المعاصر.. بسعادة لتتحسس تحولات الواقع الذي تشكل بفعل اجيال عاشت في عمان منذ ستينيات القرن الماضي.. إنها اجيال تأثرت بعوامل اجتماعية وثقافية وسياسية لها خصوصية تختلف في بعضها عن الحقبات اللاحقة حتى يومنا الحالي.
أمشي وأتجوّل في عمان
تقول د. النجار في بحثها هذا:
أمشي وأتجوّل في أنحاء عمان القديمة والحديثة.. الحارات والطرقات والامكنة التي كانت صغيرة قديماً مثل عمري وانا بنت مدرسة ابتدائية وثانوية بمريولي الاسود وقبته البيضاء.. أتفاعل مع بنات المدرسة والحياة الاجتماعية والتعامل مع نساء ورجال المدينة حسب قواعد وسلوكيات المجتمع آنذاك.
وفي عملي «عمان بين الغزل والعمل» وانا اليوم في سن ناضجة، أشارك مرة اخرى بشهادات ذاتية، وألقي الضوء على صور مكمّلة جديدة/ قديمة حول المكان والزمان مستمرة التغيير في مجتمع يسير للأمام.
ورحلتي تبدأ حيث تركت خطى الماضي، أقلّب اليوم اكثر من نصف قرن من الزمن، امشي في الامكنة التي اصبحت «عمان القديمة» التي عرفتها او لم اعرفها. أتسلّق الادراج من وسط البلد وانا ابحث عن نفسي وغيري بين القاع والجبال، أدخل الدور النائمة والمستيقظة والمكحلة عيونها بنور الصباح وأصوات من يحكي القصص من القدامى للأحفاد.
وأتوسع في جولاتي لأصل الجبل والجسر والفضاء الاوسع في عمان مترامية الاطراف، المتمددة على التلال السبع، المفتوحة على الجهات الاربع التي تشكل مدينة عمان العصرية.
لم تشمل رحلتي كل التلال والمطارح في عمان، واقتصرت على عمان القديمة التي كانت عمان الجديدة سابقاً!!وهي التي ظلت في ذاكرتي وعشتها في كتابي (بنات عمان ايام زمان).
وأحاول الاجابة عن اسئلة يسألها بعضهم: كيف كانت عمان بالامس وكيف هي اليوم؟! وكيف هو الجيل الجديد من ذكور واناث في عالم اليوم سريع التغير؟!.
لذا كان «الموبايل» وعين الكاميرا المثبتة فيه ترافقني وتلح عليّ التوقف لإلتقاط صور توثق ذاكرة المكان والانسان بالاضافة للاستعانة بصور ارشيفية.
عمان المكان
في الفصل الاول تتحدث المؤلفة عن (عمان المكان) حيث القرية تتمدن من ارض خصبة وزرع اخضر الى تاريخ يشي بمن مرّوا بعمان, وعن غزل يتغنى بالمدينة, ثم الوفاء والحب المستمر, فبعضهم يحب عمان بريئة, لكن هناك الصراع بين التراث والحداثة!!.
وفي الفصل الثاني حديث معاصر وذكريات عن (جبل عمان) الجبل المدلل حيث الصعود للجبل من قاع المدينة, للبحث عن ذاكرة الناس, وعن مدرسة أروى بنت الحارث التي تحولت لمطعم!! وصف المدرسة الى متجر!! وعن حارات جبل عمان وغيرة الاحفاد على البيوت القديمة, وسوق جارا الذي يحيي ذاكرة المكان.
بيوت عمان القديمة تحكي القصص
وفي الفصل الثالث تستعرض الباحثة بيوت عمان القديمة التي تحكي القصص عن أمير متواضع يسكن جبل عمان.. عن نوفة التي تسكن بيت حنا القسوس.. وعن بيت عودة باشا القسوس في الجوار.
وعن دار الأرمني الكريم, وقصر البلبيسي الذي لا يشيخ, وذاكرة ميّ بلبيسي وشجرة الاسكدنيا, ثم بيت (ابو نايف) العودات, وبيت آل عصفور الازرق اللون, وعن بيت جميعان, وبيت سعيد المفتي, ودار وردية على كوع الشارع.
وحكايا من دار منكو, ودارة حمدي منكو التي صارت تحتضن المبدعين, وقرية الكباريتي في الشارع العريق, وعن بيت جلوب باشا, وعن الروائح الجديدة في الحارات القديمة.
غزل البنات
وفي الفصل الرابع والذي كان بعنوان (غزل البنات) أخذتنا النجار صاحبة الذكريات الى صور الحفيدات.. حيث البنات العصريات يتشبهن باللعبة باربي, والمعايير الشرقية لجمال المرأة وصناعة الجمال.. و غزل البنات رمز الحلاوة, فقد ظل شعر البنات رمزا للجمال, وعن رأي العطَّار بهذا الجمال.
وأحاديث أخرى عن صالونات التجميل كمهنة وفن, وشعر عهد التميمي الذي أصبح ايقونة للجمال!! وعن نساء عمان ووجهات نظر مختلفة حول الحجاب!! باشكاله وألوانه, وما للغرب من رأي بالحجاب, ونظرة الى الجينز سيد الموضة العصرية الذي انتشر حيث يرتديه الغني والفقير, وعن تهميش الفستان والانوثة.
عودة لعمان الجديدة
وفي الفصل الخامس تعود الكاتبة (للمكان في عمان الجديدة) الى شارع زهران حيث ثمانية دواوير ومعالمها الجديدة, وعن الفلل والقصور في عمان الغربية, وعبدون الجميلة واخواتها, وفندق الاردن, ومستشفى ملحس الذي اختفى, وشارع الرينبو الذي أصبح تجاريا!! وعن هاجس الخوف على الهوية من العولمة.
ثقافة المقاهي في عمان
والفصل السادس فيه حديث عن (ثقافة المقاهي في عمان القديمة/ الجديدة) إذ تتطرق الباحثة النجار الى مقاهي عمان ايام زمان, وحلم مؤنس الرزاز في مقهى ثقافي.
ثم تذكر مستنكرة بقولها: مقاهي عمان اليوم تدخن بنهم فلماذا التدخين؟ والبنات يدخنّ كالاولاد!!! والارجيلة عروس مقاهي عمان!!! لكن مركز الحسين للسرطان في عمان هو العدو الاول للسيجارة والارجيلة.
الطعام والأزهار
وعن الفصل السابع فقد كان بعنوان (ثقافات تقليدية ومتجددة في عمان).
إذ ذهبت د.عايدة للعرض المعاصر والذكريات حول: ثقافة الطعام من طقوس وادبيات, و ثقافة الاطعمة السريعة: الهامبرجر والكوكاكولا وتوابعها, وعن المجتمع الاستهلاكي الذي يأكل كثيراً!! وعمان التي تحب الحلاوة, والرجل داخل المطبخ, وثقافة الخبز وهاجس السياسة, واختفاء طبلية الفران في عمان.
وعن ثقافة الازهار ورائحتها حيث باعة الزهور ينشرون السعادة في عمان.
أسواق المدينة ونوع جديد
والفصل الثامن كان بعنوان: (اسواق المدينة من نوع جديد). حيث المولات العصرية, وبعضها التي تحتضن دور السينما الحديثة, ثم ترجع الى ماضي السينما القديمة.
وذهبت الباحثة الميدانية النجار الى الاسواق الشعبية في وسط البلد وبالذات لشارع الملك طلال لترى كيف أصبح حالها ولتتذكر أيام صباها.. وهل ما زالت تتحدى المولات!!.
وأيضاً للبحث عن المهن التراثية في عمان !! لكن العديد منها اختفى!! فمهنة الخياطة والتفصيل تهمشت كذلك منجد لحاف العروس!! وبقي القليل من صانعي فروات برد الشتاء وصانعي سروج الخيل الاصيلة و أدواتها، ولم يجد البحث عن مبيّض النحاس, وأم حسن التي تشحذ السكاكين!! والاحذية صُنع اليد اختفت, وستوديوهات التصوير التي حملت الذكريات الجميلة لم يبق منها إلا القليل النادر.
عودة إلى قاع المدينة
وفي الفصل التاسع (عودة الى قاع المدينة) هناك بعض الحكايا عن المهمشين في وسط البلد مثل الامبراطور نابليون بونابرت–رمضان–الذي كان يحتل السوق, وعن صاحب الشعر المنفوش المثقف, وسقراط الي كان يتفلسف في عمان.
وفي الكتاب فصول أخرى بعناوين رئيسية وهي:
الفصل العاشر: ثورة مواصلات واتصالات.
الفصل الحادي عشر: ثورة تعليم للبنات والاولاد.
الفصل الثاني عشر: ثقافة ومثقفون.
الفصل الثالث عشر: اللويبدة جبل الثقافة والفنون.
الفصل الرابع عشر: عمان ترسم وجوه بناتها على الجدران «الجرافيتي».
الفصل الخامس عشر: غزل الادراج.
مُداخلات لا بد منها !!
في هذا الكتاب المتميز للزميلة الكاتبة والإعلامية د. النجار الكثير من الجهد والبحث الميداني والذكريات الخاصة, وذكريات بعض الناس الذين قابلتهم, مما يجعل القارئ يستمتع حقاً بالإطلاع على الماضي الجميل لمدينة عمان من أماكن وأشخاص ومواقف وحكايات.. وأيضاً عن زمننا الحديث وما طرأ عليه من متغيرات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وبعد قراءة هذا الكتاب تولدت لديَّ بعض الملاحظات والتساؤلات القابلة للنقاش من خلال هذا الكتاب الذي يحوي على (407) صفحات من القطع الكبير.
- جاء في الصفحة رقم 14 (في عام 1917 احتضنت عمان اللاجئين الشركس عندما وفدوا إليها هرباً من الثورة البلشفية ليستقروا في قلب المكان عمان بمحاذاة السيل الذي يروي بساتينهم الخضراء…).
ولكن ما أعرفه ان أول فوج من الشركس جاءوا الى عمان عام 1868, وهناك فوج آخر في بداية القرن العشرين نحو عام 1910. - في الصفحة 66 (جريدة الاردن التي أسسها خليل نصر وهي أول جريدة رسمية لشرقي الاردن منذ عام 1922 استمرت حتى الستينيات).
لكن جريدة الاردن تابع إصدارها أبناء وأحفاد خليل نصر في عمان وبشكل متقطع حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. - في الصفحة 78 (معرض الفنان التشكيلي علي جبري الذي أقامه أصدقاؤه على كتف شارع الرينبو بالقرب من بيت منكو…).
والصحيح هو الفنان التشكيلي علي الجابري. - في الصفحة 151 تتحدث الباحثة عن مقهى السنترال- الذي ما زال موجوداً-، وعند متابعتها الحديث عنه تخلط بينه وبين مقهى وادي النيل الذي كان يقع قرب البريد في شارع الأمير محمد.
- في الصفحة 194 (وتتذكر «سيتا» حي الأرمن في جبل الاشرفية التي كانت والعائلة تسكن فيه, فهو المكان الذي استقر فيه الأرمن منذ تركوا بلدهم أرمينيا نتيجة الثورة البلشفية).
فهل هذا صحيح تاريخياً !! أم كانت هجرتهم لأسباب أخرى؟!. - في الصفحة 208 تقول المؤلفة (اقبل سكان عمان على الاستمتاع بعروض دور السينما حتى السبعينيات من القرن الماضي…).
لكن دور السينما في وسط عمان ظلت تعمل حتى أواخر التسعينيات. - في الصفحة 222 (كلام عن محلات تنجيد الفرشات واللحف في شارع الملك طلال !!!).
مع العِلم انه لا توجد هكذا محلات في وقتنا الحاضر.. فقد اختفت. - في الصفحة 226 (حديث عن المجلخين للسكاكين والمقصات الذين اختفوا من شوارع عمان).
ومع ذلك هناك محلات لهذا الأمر حتى الآن, محل في أول طلوع القبرطاي, ومحل آخر في دخلة سوق القدس. وكلاهما بالقرب من استوديو دنيا للتصوير مقابل شارع جسر الحمام. - في الصفحة 237 هناك خلط بين المشرديْن نبيل حمدان ورمضان خليل المدعو بنابليون عمان.. فالذي كان يجلس عند مدخل سينما زهران ويقرأ الكتب الماركسية هو رمضان وليس نبيل.
- في الصفحة 248 (خزانة الجاحظ الأقدم في مدينة عمان)!!.
خزانة الجاحظ للكتب بدأت في عمان بعد العام 1948، لكن مكتبة فهمي يوسف بدأت منذ الثلاثينيات في شارع الملك فيصل بعمارة آل ماضي, ومكتبة الاستقلال في بداية الاربعينيات في عمان. - في الصفحة 243: (المرحوم هزاع ذنيبات أشهر شرطي سير في عمان عمل لمدة عشرين سنة في منطقة اللويبدة قبل ان يُنقل الى وسط البلد)!!.
لكنني أشك في مدة العشرين سنة!!. - في الصفحة 287 (ان الدكتور زياد المحافظة كان من ضمن رؤساء الجامعة الاردنية قديماً)!!.
اعتقد ان المقصود هو الدكتور عزمي محافظة.
وليد سليمان
المصدر