ما لفتني وانا أتجول في قاع المدينة عمان، وبشكل خاص في سوق للدشاشيش والملابس المطرزة الشعبية، أن أكثرها صنع على الالة التي أصبحت تنافس يد المرأة التي تعلمت القطبة من الجدة المبدعة باليد والإبرة والخيط . وفي دكاكين السوق التنوع الكثير المستورد من المنتجات التي يحمل بعضها مخزونا من الخبرة والمعرفة مهما كان تنوعها وجودتها . نما هذا السوق الشعبي التجاري، في قلب المدينة الذي يحمل الخصوصية وجزءا من التاريخ المحلي الذي يتكامل مع الحضارات الأخرى، وإنتاجها المادي.
في مثل هذه الأسواق أو الأماكن أشعر بمشاعر خاصة – ملازمة لي – نحو التراث الشعبي، تذكرني بألوان ومذاقات وروائح، لها خصوصية ومعان عميقة مثل تلك التي عبرت عنها في كتابي الاخير، ( لفتا يا أصيلة : خريفية قرية ) الذي يتضمن حياة قرية فلسطينية تراثية كان فيها حياة وكان فيها ثقافة شعبية متعددة قبل أن تموت بفعل الاحتلال الصهيوني . وهي أيضا تعبر عن قرى وأماكن اجتماعية تحمل الماضي والحاضر لتتكامل الاصالة والحداثة .
رحلتي لسوق عصفور الشعبي أخذتني، لموضوع الثقافة الشعبية بشكل عام، وهو موضوع يوجد في بلدان وحضارات مختلفة متعددة بعضها يبرز الثقافة الشعبية، وبعضها يهمشها كما في بعض البلدان العربية حيث لا، تحظى بالاهتمام من الاوساط الثقافية والفكرية كما ينبغي .
وقد يكون ذلك بسبب الصراع على مفاهيم وتطبيقات الحداثة والمعاصرة اليوم التي تنتهج منهجين في عالم سريع التغيّر. وفي الوقت نفسه نجد أن هناك اليوم صحوة عربية للاهتمام بالثقافة الشعبية . فقد بدت واضحة منذ السبعينيات من القرن الماضي، حيث أخذت أكثر البلدان العربية بإيلاء الثقافة الشعبية اهتماما، واصبح هناك مشاريع تعمل على الدراسات الاجتماعية والعلمية للثقافة الشعبية . تقام المناسبات لإحياء الحياة الاجتماعية للأجداد، وكذلك بالحرف والمهن التي اندثر الكثير منها بسبب الإهمال أو التهميش . بالإضافة، فقد أصبحت هذه المهن تنتج سوقا مرغوبا بين الناس الذين يجدون في التراث إبداعا ، . وأصبح من المعروف أن الثقافة الشعبية لا تتوقف عند نوع معين من الثقافة، وأدواتها، بل تشمل الثقافة المادية الشعبية ، والمعارف والتصورات والعادات والتقاليد واللغة، والتعبيرات الفنية، الموسيقى والرقص والتعبير التشكيلي، وغيرها . وفي هذه الثقافة التراثية كثير من المعرفة التاريخية وعوالم الإبداع.
ولا بد من التنويه، أن نشاطات كثير من جمعيات المجتمع المدني الثقافية، تقوم اليوم بتفعيل الثقافة الشعبية التي تهمشت، ولعل ذلك يزيد من الاهتمام بها، ومناقشتها جنبا لجنب مع الحداثة . وهذا التفاعل كما أرى، يزيد من حماية ، انواع من التراث من الإندثار .
ولعل إقامة ندوات وورش عمل وتدريب الجيل الجديد على نقل المعرفة الشعبية وتطويرها، من الأهمية بمكان لتعزيز التراث والحداثة والتواصل العلمي والمعرفي . وبالعودة لتعدي الالة على التطريز التراثي، بلا شك أنه خطر على القطبة، والغرزة، واللون، والرسوم والرموز وعلى المرجع الانساني للأثواب الشعبية الأصيلة !