غِبتُ عن الكتابة لأعود مشتاقة اليوم، وشكرا لمن سأل عن هذه” الغَيبة” . عدت و في جعبتي الكثير بعد زيارة للقدس ورام الله ولفتا المهجرة، التي أحملها في قلبي وعلى رأسي .كانت الزيارة بدعوة من (ملتقى المثقفين المقدسي )،في (مهرجان زهرة المدائن للإبداع الثقافي من أجل القدس، والذي يعقد كل سنة لتكريم عدد من الأدباء والكتاب والفنانيين، كان التكريم لي عن كُتُبي المتعلقة بالقدس وأخرها كتابي ( لفتا يا أصيلة: خريفية قرية ) الذي حاز على جائزة -أفضل كتاب لعام 2017- . أقيم الاحتفال في،جامعة القدس في أبو ديس بتاريخ 4، نيسان ، فشُكرا للمشرفين على المهرجان، وأخص بالذكر د. طلال أبو عفيفة .
الغياب الطويل عن المكان بفعل الاحتلال، لم يعد المكان النائم في ذاكرتي : الطرق والمعابر، والشوارع، وألأشجار والهواء التي رأيتها غريبة مثلي ما زالت تبحث عنا . الجدران العازلة التي تقطع الأرض والسماء في محاولة الاحتلال تجيير القدس وضواحيها لكي تكون لإسرائيل، بتخطيط مبرمج وبنظرة مستقبلية خبيثة، أشعرتني بالغربة، وبغضب داخليّ كاد يقتلني، و ضياع وغضب من واقع الحال أعترياني و جعلاني أشعر أنني “ كالسواح الأجانب “ . فالجدار الذي يحيط ببلدة أبو ديس ومحيط الجامعة التي تحتضن الشباب الذين يحلمون بوطن حر أخضر بلا جدران قبيحة أغاظني؛ لأنه يقسم الأرض لكنتونات متباعدة وتطلب إذنا لدخول وطنك .
رام الله الجميلة التي كانت حلم “عرسان “الفلسطينيين لقضاء شهر العسل فيها، لم أجدها كما كانت،لأن جداراً قبيحاً في مدخلها هجم على عيني ليبكيهما ، فقدان الأشجار في شارع الإذاعة الذي كان جميلا، ماتت وهي مشتاقة لي كما اشتياقي لها . (وفندق عودة ) ملتقى المثقفين ومحبي الحياة أصبح حزينا بعد أن رحلت صاحبته عن الدنيا . أما محل ركب للبوظة، فظل في شارع المنارة ليطفئ حرارتي وأنا التهمها كالأطفال ويرجعني للماضي عندما كان طعمها خاليا من الاحتلال .
أما القدس، فالألم الذي يصيب من يعرفها قبل أن تصبح بعيدة عنا رغم بعض المعالم التي بقيت في الذاكرة كبير: مدرسة المأمونية، وحيّ المصرارة، ومدرسة السلزيان، ومبنى الاذاعة وشارع صلاح الدين الذي أخذني لمقبرة باب الزاهرة لأقرأ الفاتحة على روح والدي وأقاربي، وحي الشيخ جراح، الذي يحتضن دار إسعاف النشاشيبي، ودور ومؤسسات فلسطينية عريقة تشهد على أن القدس لنا رغم تغيير معالمها خارج السور،أحزنني .
القدس العتيقة التي تعمل إسرائيل ليلا و نهارا في ممارسات استعمارية لتقليل سكانها العرب الصامدين لم تمنع الفلسطينيين من الصلاة في المسجد الأقصى يوم الجمعة خوفا من الحقيقة ، أن القدس هي عاصمة المسلمين والعرب اليوم والغد رغم الممارسات البشعة ضدهم. سوق القدس العتيقة التي أصبح يبيع طقية اليهود المعروفة أغاظتني . إلا أن صلابة اصحاب المحلات وصبرهم يحثانهم على البقاء في دورهم ومحلاتهم التجارية .
أما قرية لفتا المهجرة والمدمرة والفارغة من أهلها منذ عام النكبة 1948، فقد استقبلتني ومرافقيّ من (جمعيات لفتا )، في زيارة “ الجذر “ لفتا التحتا، في يوم ربيعيّ خاص، شوكها أزهر ورداً ومحبة وأنا ابحث عن دار سيدي والبيت الذي ولد فيه أبي، أخذت الصور التذكارية أمامه وأنا اتمنى لو عرفته من قبل، لجمال معماره، كبيوت القرية الجميلة الوردية وعين مائها وحواكيرها ومعالمها التاريخية . أشعرني أهل لفتا بحنان عميق كونهم يبحثون عن الأهل والأحبة الغائبين مثلي .
كرمهم ومحبتهم غمراني، كما تقديرهم لكتابي الصادر مؤخرا : ( لفتا يا أصيلة : خريفية قرية ) الذي أهديته لهم وللجيل الجديد . ألف شكر لضياء معلا رئيس جمعية لفتا الخيرية، ولهاشم بدر رئيس جمعية أبناء لفتا المقدسية، ويعقوب عودة رئيس جمعية الحفاظ على التراث، والشكر موصول لأعضاء هذه الجمعيات على حفاوتهم ومحبتهم . وشكرا مرة أخرى لمن يقدرون الحفاظ على ذاكرة لفتا وقرى فلسطين ومدنها، حتى نعود ..!