كبرنا وما زلنا نتذكر البيوت التي تبني إسرائيل عليها المستوطنات، وتهجر من تبقى في القدس القديمة  الى غير مكان .  ولعل قرار سلطات الاحتلال مؤخراً بالمصادقة على بناء أربعة آلاف وحدة استيطانية في مدينة القدس المحتلة على أنقاض البيوت العربية تؤكد ذلك . مواصلتها  بناء المستوطنات خطيرة، لسرعتها أملا في  إكمال سياستها العنصرية وهي تهويد ما تبقى من القدس وفلسطين بكل الوسائل .


أسوق هذا وأنا ما زلت في وضع نفسيّ مصدوم من الحقائق التي لخبطت الصورة الذهنية التي حملتها في قلبي ووجداني  منذ 1948،  بعد زيارة قمت بها للفتا /  القدس في إبريل الماضي لأحتفي بكتابي( لفتا يا أصيلة ) مع جمعيات لفتا المهجرة الصامدين  في رام الله والقدس . بعد عودتي من الزيارة  تسألني الأخوات  اللواتي يحملن نفس الصور والذاكرة عن البيت وشجر التوت  والوردة الحمراء   . سألن عن دار سيدي  ودور الجيران وأهل الحارة  وعن( حرش شنلر ) الذي كنا نتسلق شجر الصنوبر لنأكل “حَب قريش” من بطنه .اي بيت وأي حرش تسألون عنه، أنا فعلاً حزينة وقد أتعبت مضيفيَ وأنأ أبحث معهم عن  المكان والذاكرة  الملونة الجميلة التي كانت زادي في الغربة حتى  ساعة البحث عنها .


  لم أجد يبتي ولا الوردة الحمراء  ولا الحارة ولم أجد بيت جدي الذي كان يفصله عنا” الحَبَلة “ التي كانت تتكدس فيها أطنان من القمح والشعير في موسم الحصاد، وكما الصورة الجميلة ونحن الصغار نعتلي لوح الخشب الذي يلف به  فرس كان يدور ويدور، ونحن نعطر ملابسنا برائحة  القمح والشعير دون خوف من عقاب الأهل  من  تلوث الفساتين .  إنهم اليوم مستمرون في  هدم البيوت وتفريغ بيوت القدس القديمة، من أجل محو الهوية والتراث .بحثت عن حرش شنلر جار دارنا وكانت صورته الخضراء بوصلتي للدار كما بوابته في مدخل مياشوريم الشارع اليهودي، تشوشت الذاكرة، وحاول مرافقي  أكثر من مرة، وأنا أشير الى مكان كان يوما ما دارا وحارة وشارعا وناسا  واليوم يبنون المستوطنات على انقاضها .


 ليس هذا جديداً في أساليب الاستيلاء على الأراضي العربية، فقد  قامت الهاجاناة منذ البداية لإجلاء العرب عن أحياءهم في القدس الغربية واحلال  اليهود مكانهم في منازلهم . وكانت الشيخ بدر/ لفتا أول منطقة أسكن اليهود فيها   ولم يبق فيها اي بيت قائم  وهي المنطقة التي بنت إسرائيل عليها الكنيست والمؤسسات الحكومية  ومنها وزارة الخارجية . كانت القرية نهبت قبل ذلك من قبل سكان مستوطنة يهودية مجاورة في يناير وأسكنت 15 عائلة يهودية في الشيخ بدر، حيث نقلتهم الهاجاناة اليها بالقوة  ليصبح  إخلاء العرب ملازماً للتوطين ..  سقطت القدس  وتركت  القوات البريطانية البلاد بعد أن اطمأنت أنها نفذت وعد بلفور المشؤوم . أعلن بن غوريون بتاريخ 14 مايو تأسيس دولة اسرائيل، أو الدولة اليهودية  التي لا تزال تتوسع في عدوانها بتفريغ فلسطين من العرب، وجلب يهود العالم  ليسكنوا في دورهم .


 البحث عن الدار والذاكرة عملية من أصعب التجارب الانسانية، شعور بالبحث عن حياة غاربة فيها الأهل الأحياء، وفيها الشهداء الذين يسقطون كل يوم لمن يسمع رواياتهم التي يسجلونها بالدم تحت احتلال ينتقم ممن يحب الأرض والوطن عاشها أو سمع عنها من الأجداد الذين رحلوا أو الذين يتذكرون الأحراش والدور والزمن الجميل .

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment