صور من وجع فلسطيني يتجدد كلما تذكر الإنسان أن معنى اللجوء والرحيل والغربة هي صفة الفلسطيني الختيار والشاب الذي لا ينسى. وجع يتحرك في ضباب العالم الملبد بخبايا النوايا غير الحسنة لأمريكا ولمخترع خزاّن مفاهيم الغربة الفلسطينية بريطانيا والصهيونية. يتجدد الألم قبل كل فرح أو ألم مجبول بذاكرة فلسطينية خلقها الاستعمار منذ مائة عام وأكثر.. لتظل النكبة ومعناها.

حسبت، وأنا أكبر سناً أن الصور الذهنية وذاكرة الطفولة الجميلة الملوّنة يمكن إزالتها، ولكنني تأكدت بعد زيارة للقدس وضواحيها مؤخراً وبشكل خاص لقرية لفتا المهجرة منذ عام 1948 الذي سميّ بحق عام النكبة. لم أجد في أبجديات اللغة العربية الواسعة عن مفهوم أكثر إيلاماً لأنني عشتها مقهورة تائهة أبحث عن نفسي وغيري.

ولجت مقبرة باب الساهرة لأسلم على المرحوم والدي(علي اسماعيل النجار) وكثير من أهلي ممن يسكنون مقبرة باب الساهرة في القدس. عندما قرأت الفاتحة على روحهم وأرواح الشهداء، شعرت أن والدي يسمعني وأنا أخبره أنني رأيت البيت الذي ولد فيه في لفتا العتيقة الملاصقة أراضيها لأسوار القدس. لم أكن أعرف تلك القلعة الذي ولد فيها أبي، وما أجمل بقايا الحوش الذي لعب فيه قبل أن يسكن في بيت عصريّ في لفتا الفوقا بقرب حرش شنلر أو» راس النادر «.أخذني خيالي الى طفولة أبي وهو يلعب مع أولاد لفتا» الزقيطة «ويختبئ وراء حيطان البيوت العملاقة يقهقه كأي طفل وهو يتسابق معهم للوصول لعين لفتا الحلوة التي زرتها مؤخراً.

زرت لفتا الجذر وزرت لفتا الفوقا لأرى البيت الذي ولدت فيه فلم أجده ولم أجد دار سيدي ولا دور أهل الحارة التي أعرفها… تجولت مع أهلي أهل لفتا اللاجئين الى رام الله والقدس. بحثت عن معالم المكان في لفتا.. بكيت يا أبي لأن الصور الحلوة اقتلعها المحتل من الأرض على أمل ان أنسى، بكيت يا أبي وتذكرت شجرة التوت الأبيض وشجرة الأسكدنيا برتقالية الثمر وشجرة الزنزلخت ليلكية اللون والعطر وأنا أتسلق عليها وما زالت أثار الجرح محفورة في ركبتي. بكيت يا أبي وأهل لفتا يتذكرون معي الأهل والأرض والوطن وقد رويتها في كتاب (لفتا يا أصيلة: خريفية قرية) هديتي لهم مع المحبة.

زاد ألمي وزادت غربتي عندما دخلت باب العمود. استقبلتني في مدخله قرويات القدس بالثوب المطرز بألوان الفرح، وهن يبعن الزعتر والهندبة والخبيزة غاب الباذنجان البتيري واللوز الاخضر من بيت صفافا، رأيت أن الدنيا بخير ما دمن يجلسن على أرض القدس. اشتريت «الملبن الخليلي» من أم محمد وهي تشرح لي أنه» طازة «، وتذكرت «حب قريش»المطعم فيه الذي كنا نبحث عنه في حرش شنلر ونحن نهز الشجر لايقاعه وأكله طازة أيضاً» قبل النكبة « وقبل خلع الشجر لبناء المستوطنات التي تحيط بالقدس.

في شوارع القدس العتيقة، مررت عن أكثر من دكان عطار، وبائع مجسمات للصخرة المشرفة وكنيسة القيامة، وقمصان قطنية عليها شعارات وأسماء رمزية وطنية، ولعل أكثر ما أغاظني رغم بداية رعشة أيقظت الدهشة والذاكرة، تلك الطواقي السوداء الصغيرة التي يلبسها اليهود المتعصبين، وهم يصلون ويهزون رؤوسهم أمام حائط البراق الذي يسمونه حائط المبكى، وقد بكى معهم الرئيس الأمريكي ترمب الذي زاره مؤخراَ، وهم يبحثون عن هيكل مزعوم ي علّهم ليجدون مبررا لسرقتهم القدس بكاملها.

أمام باحة الأقصى، شعرت بغصة وألم لا يمكن وصفه، وقد عدت لصورة الطفولة، الني أخذتني لأيام العيد عندما كنا نذهب للمراجيح بفساتين العيد الجديدة والأحذية الجلدية التي ما زالت رائحتها تفوح حناناً لخصوصية حذاء العيد الذي نضعه فوق رؤوسنا سنا ليكون أول ما نلبسه صباح العيد. نفحات من الخشوع الرباني، اعترتني مع حزن عميق وأنا أتذكر في داخل المسجد كيف كنا نصلي مع الكبار، ونقلدهم بالطلبات من الله عز وجل الخير والسعادة. طلبت في زيارتي هذه من الله أن يفرج همنا ويعيد لنا راحة البال وبخفف الالام المستمرة.. طلبت من الله الحي القيوم، أن يظل للأجيال القادمة من الفلسطينين الأمل بالعودة لهذا الوطن السليب، أجمل بقاع الأرض وأقدسها. طلبت من الله أن تظل القدس لنا كما كانت مدى التاريخ، ليسعد الأطفال باللعب والحياة دون استعمار واحتلال.. وكل عام وأنتم بخير…

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment