في هذا البرد القارص، قمت أبحث عن ذكريات تدفئني، وتعيد اليّ حرارة التفاعل الانساني، والذاكرة الشابة التي اختزنتها منذ سنين ومنها أوراق وصور لليمن عندما كنت أعمل في برنامج الامم المتحدة للانماء ترجع للثمانينيات. وجدت صوراً أوقفتني طويلاً وكادت دموعي أن تنهمر منها صور مع أطفال يمنيين، وأنا أحتضنهم؛ إحدى هذه الوثائق، صورة لمجموعة من البنات الصغيرات الجميلات يحملن ملامح الجمال اليمني الجذاب، من عيون سوداء واسعة، يتحلين بظفائر الشعر الليلي أو القصير الغزير والفساتين النظيفة من كل الألوان والوجوه التي تبدو عليها صحة ورفاه.
الصورة بمناسبة تلبية دعوة، مخطوطة بالحبر من “ أطفال روضة، التواهي “، في عدن ممهورة بختم الروضة التابعة لوزارة التربية والتعليم، أنذاك، جاء فيها :
“ بطاقة دعوة،
ماما عائدة،
نتشرف بحضورك الى حفلنا المتواضع الذي سيقام في روضتنا بمناسبة عيد الاستقلال الوطني، وذلك يوم الخميس الموافق، الساعة العاشرة صباحاً، وأملنا الكبير في تلبية الدعوة “ .
هذه” الوثيقة التاريخية” اسعدتني وأعادتني الى صديقاتي ميرف، وأحلام، وزميلاتهن الجميلات اللواتي أحطن بي، وأنا البي الدعوة، التي اعتبرتها أجمل دعوة أتلقاها في حياتي حتى اليوم. رقصت البنات الصغيرات في الحفل وقد تعلق قلبي بالايدي السمراء التي كان تصفيقها ينم عن إيمان بالمستقبل، وبالحب والامل. رقصت طالبات الحضانة، وأسمعنني موسيقى الأرجل الصغيرة التي كادت تطير في الفضاء، وهن يحلمن بزرع أخضر وخبز ساخن ـ وحليب وزبد وعسل.
وفي صورة أخرى، لا تقل رمزية عن هذه الصورة الانسانية التي تربط اليوم بالامس، وتثير الشجون، صورة أجلس فيها مع ولدين يمنيين صغيرين، في قرية يمنية في حضرموت . أخذتها في إحدى الزيارات، وبرنامج الامم المتحدة نخطط لمشاريع تنموية . هذه الصورة ذكرتني بمسيرة اليمن الديمقراطية التي كانت ترسم مناهج التعليم للأجيال . كان الاطفال، في القرى يركضون الينا، في زياراتنا، هذا الطفلان احببتهما، كما بقية الاطفال . كانو يطلبون منا “الاقلام “، وليس الطعام والدواء. نعم الاقلام التي يكتبون بها من أجل صناعة المستقبل.
اقارن اليوم بالامس، وأتساءل، عن هؤلاء الأطفال الذين كبروا، وأصبحوا أباء وأمهات، لا بل أجدادا ً لأجيال كانت تحلم بمستقبل سعيد. ملايين أطفال” اليمن السعيد “ اليوم يعانون من الجوع والفقر والهزال، والامراض، نتيجة الحروب وأثارها، وقد وصلت إصابات مرض الكوليرا الى 80% من السكان.
أسأل الامم المتحدة -التي عملت فيها -، وأسأل من يؤمن بحقوق الانسان عن أحوال ميرفت وأحلام، وحسن ومحمد. أسألكم ماذا انتم فاعلون لانهاء موت الاطفال والعالم يتفرج، والحرب تحصد الأرواح.؟ أتساءل عن الأحفاد والأطفال الذين كانوا سعداء، يرقصون ويرحبون بنا ويدعون الضيوف لدورهم الكريمة، أين هم، متى يمكننا زيارة اليمن التي لها ذاكرة عميقة في القلب والوجدان؟