في عالم اليوم المليء بالتناقضات المادية والمعنوية تنتابنا أحياناً مشاعرتجعلنا نتساءل عن معان ومفاهيم هامة نتداولها في حياتنا مثل» السعادة والكآبة « وكما حصل معي في ذروة الاختناقات المرورية وأنا اتوقف بأمر من اللون الأحمر عند شارة المرور. تقدم مني طفل لا يتجاوز العشر سنين يتراكض بين السيارات حاملا بضاعته من العلكة و»نكاشات الاذن « . ولد جميل المحيا له ابتسامة ساحرة ولم يطلب شيئاً بل ناولني حبة علكة واحدة وهو يقول «هذه لك..» هذه الحركة الذكية أثارت مشاعري وهو يحافظ على كرامته الطفولية. كان يبدو سعيدا رغم فقره، لا بل أكثر مني سعادة وانا أتعاطف معه بمشاعر فيها حزن على وضعه بشكل عام. وعندما اشتريت منه النكاشات بسعر يضاعف ما طلبه، بدى وجهه الأسمر أكثر جمالا وعيونه أكثر لمعاناً عندما ضحك بصوت عال وألح عليّ أن آخذ حبة علكة أخرى قدمها لي وكأنه يقول شكراً .
هذه الحادثة الانسانية، جعلتني أعود الى بحث كنت قرأته عن «علم السعادة». جاء في النتيجة أن.. « السعادة على عكس ما تقول به طبيعتنا لا ترتبط كثيرا بالمال أو غيره من العوامل الخارجية، وإنما تعتمد على شيء أكثر غموضاً بكثير ؛ على صفة داخلية تسمح للناس باكتشاف السعادة والتمتع بها بغض النظر عن الظروف الخارجية ما دامت هذه الظروف ليست محبطة تماماً. « وهذا ما رأيته في عيون هذا الطفل المسكين لحظات من الكآبة والسعادة، ولكنني أقول، أي سعادة هذه وهو لا يملك أدنى مقومات ما نسميه بالسعادة، التي لا يعرفها ليس بالمفاهيم المتداولة، بل بممارسة حياته الفاقدة للعوامل الاساسية.
والحقيقة أننا جميعاً نبحث عن السعادة قاصدين ذلك أو غير مدركين، مع تباين الأهداف. ولعل الاهتمام بالتعليم والصحة الجيدة والمحبة والامان، والوظيفة والوضع الاجتماعي هي الاهداف التي تبعث على السعادة للأكثرية من الناس،و يمكن تلخيصها بالاحتياجات الاساسية من» مأكل ومسكن وملبس والصحة. «. وفي واقع الحال نجد ان المظاهر نسبية، فالناس يقارنون ظروفهم الحياتية بظروف من حولهم، مما يخلق السعادة او الكآبة .
وفي عالم اليوم المادي المعقد هناك «علماء للسعادة « يحاولون تغيير مزاج الانسان المكتئب السلبي الحزين على نفسه، لتغييره الى كيفية مواجهه تحديات الحياة، وفي الثمانينيات من القرن الماضي انتشرت في أمريكا استعمال دواء» البروزاك «الذي تندر الناس عليه وهم يشترون السعادة بالمال واصبح للبعض هوسا رغم غلاء ثمنه التي بلغت دولارين للحبة الواحدة لكي يظلوا مبتهجين ، بالاضافة قامت معركة منافسة بين الشركات الدوائية لتصنيع مثل هذا الدواء الذي يجلب السعادة. بالاضافة، ففي بعض الدول أقيمت ما يسمى « بوزارة السعادة « من أجل ارشاد الناس لكي يكونوا سعداء أو الإيحاء أن يكونوا سعداء سواء أكان لديهم المال أم لا.
هذا الطفل الذي يضحك ويركض في الشارع يبحث عن السعادة أو بعضاً منها لكي يحافظ على البقاء، سعادته معدومة اذا ما قارناها بالمطلوب لأن يكون سعيداً – العلم والسكن والمأكل والملبس الدافئ في هذا البرد القارس-. وكما ارى ان لمستوى التنمية الاقتصادية والمستوى الثقافي اثرا مهما على سعادته المحروم منها وعلى الابتسامة الحقيقية الصادرة عن طبيعته في شارع يجمل الكثيرون من الناس الفقراء والاغنياء الذين يبحثون عن السعادة الحقيقية وهم يتسارعون بحثا عنها!