المدينة العصرية،عمان اليوم، سريعة الركض للحاق بالجديد في كل شيء بما فيه من ثقافة الطعام.. الروائح المنبعثة من شبابيك المطابخ بالإضافة « لشبابيك مطابخ الفضائيات « تحاصرك وأنت تتجول بين المحطات التلفزيونية المحلية والاقليمية العابقة بالروائح الشهية ليس في شهر رمضان الذي يحض على فتح أبواب الخيال للبعض بل أيضاً في الأيام العادية. فالطعام كثقافة، له خصوصية تحمل ملامح وطعما متوارثا ترسخ في وصفات تراثية قديمة تستعمل المواد» البلدية « ذات النكهة الخاصة التي تذكرالحاضر بالماضي وتواصله.


 مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية، اختفى اعتماد الأمهات على حاكورة المنزل، التي كانت توفر للكثيرين الخضروات من البصل الأخضر والثوم والنعنع والكزبرة ؛ كما كان» خُم الدجاج « يوفر البيض البلدي الطازج الذي له طعم الأرض الحنونة التي استبدلت اليوم بالمزارع المحليةالتي فيها طعم البيض اليوم غير طعمه بالامس . وبهذا التحول في مصادر المواد الغذائية تغيرت روائح الاطعمة التي أصبح بعضها لا طعم ولا لون يذكر» بطبيخ الجدات « وأصبح السوبر ماركت « « والمول» يوفر المواد الطازجة أو المعلبة والمفرزة أيضاً. وقد وفر هذا للكثيرات من ربات البيوت الوقت لاستعماله في ممارسات أخرى، مفيدة أوغير مفيدة للكثيريات. عمان تغيرت وأنا وأنت تغيرنا ونحن نتأثر بالمستجدات الاقتصادية والثقافية بفضل الانفتاح على العالم. أصبحت عمان مدينة كبيرة» كوزمبلوتينية «مدت أذرعها لكل الجهات بما فيه الريف الذي كان يوفرخبز الطابون ولحم الخروف البلدي والخضروات الطازجة.

 التغيرات الاجتماعية والانفتاح على الثقافات العالمية طالت النكهات، وطعم ولون الاطعمة ؛ في عمان اليوم و ثقافة الطعام، مصحوبة بالجري وراء الجديد، تمثل ثقافة « كل افرنجي برنجي «. لا تفتقر عمان العصرية لمطاعم عالمية تحمل نكهات عالمية : فرنسية وإيطالية وهندية ومكسيكية وصينية «وأمريكية، ولم تنجح الالمانية الذي جرب أحد المستثمرين قبل سنين نشرها عندما فتح مطعماً لم يرق للناس لاقتصاره على سلق «الملفوف والنقانق « وكانت الأقل جاذبية بين كل الأطعمة التي تذوقتها وأنا أبحث عن رائحة» طبيخ أمي «.


لم تستطع المطاعم الوافدة من إلغاء الأطباق العربية التقليدية، إلا أن مطابخ الفضائيات ووصفات» الشيف « الذي يحاول إدخال لمسات خاصة عليها أصبح يهدد الطعم واللون والرائحة التقليدية. فقد أصبح الحليب والكريما، والمايونيز، وخلط البهارات بطريقة عشوائية يهدد الأطباق التقليدية التراثية التي تعتبر جزءاً من الهوية، وحتى المنسف والمقلوبة والمسخن، والملوخية، تحتاج للثوم البلدي لتفوح منه الرائحة الأصيلة. وأكثر ما يغيظني أننا أصبحنا نستورد الثوم، نعم الثوم من الصين الذي أجد طعمه غريباً لا يحمل طعم « الثوم البلدي « الذي تفوح من رأسه وأسنانه الكبيرة الرائحة الأصيلة. ولعل حرصي على» رائحة الثوم التقليدية « ما يجعلني هذه الأيام أخزّن مونة السنة خوفا من شراء المستوردة !.


الطعام ثقافة، بكل مكوناته وأدبياته وجنسياته ،له خصوصية مرحب بها شرط أن لا تتداخل في عملية صنع الأطباق العربية وغيرها من مكونات الهوية التي لها خصوصيتها. ولعلي في( الفصل السابع )من كتابي الأخير ( عمان بين الغَزل والعمل ) قد لخصت ( ثقافة الطعام ص 181-203 ) التي أعتبرها إحدى الثقافات التي لا بد من الحرص عليها وأخذها بعين الاعتبار عند دراسة مفهوم الثقافة الواسع المتعارف عليه عالمياّ. ويكفي أن نتذكر أن ثقافة الأطعمة السريعة من الهمبرجر وتوابعها أصبحت تهدد طعام الأمهات بما فيها الكفتة البلدية وبالتالي، لتعزز أرباح الشركات الكبرى، بالإضافة لمحاولات العدو لسرقة» الطعم واللون والرائحة « وإن لم ينجح لليوم….

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment