استرقت النظر لسيدة تجلس بجانبي في قاعة محاضرات، لسماع محاضرة جادة. كانت تحمل الموبايل صديقها الدائم كما بدا لي. حسبت في البداية، أنها تقوم بتسجيل الحدث لنشره على الناس، فوجدتها مستغرقة في لعبة الكترونية على الفيس بوك، وبشكل جاد يدخل السعادة لنفسها وكأنها تعمل على تبديد الوقت الذي وجدته مملاً كما يبدو وليس هاماً مثلي. لقد اكتفت بعالمها الافتراضي لتهرب اليه من عالم الواقع الذي لم يرق لها، وتساءلت، هل الالة في هذه الحالة “ نعمة، أم نقمة “؟
وفي حالة أخرى، راقبت طفلاً ابن تسع سنوات يصطحب أمه في السوبر ماركت، وعجبت أنه لاذ بالفرار من مغريات الحلويات في المحل، ليقبع في ركن، أخبر أمه أنه ينتظرها فيه حتى تتم التسوق. وكان هذا ما جعلني فعلا أعود لمناقشة مثل هذه الموضوعات التي تفرض الالة نفسها علينا ومنذ الطفولة،” لاستغلال الوقت أو قتله “. لم يمنعني احترامي لحرية الطفل الشخصية من سؤاله عن اللعبة الالكترونية التي يقوم بها بالرغم من جهلي بالألعاب الالكترونية للصغار والكبار. تحمس الولد الذكيّ ليعلمني اللعبة ويريني الألعاب الأخرى التي يحبها ويمضي وقتا يزيد على الثلاث ساعات يومياً وهو يمارسها. بلا شك فقد أصبح مدمناً عليها وكما لاحظت، وقد فضلها على التجوال بين الحلويات المغرية.
نحن اليوم نعيش عالماً حداثيّاً متسارعاً يطمس الكثير من حياتنا الاجتماعية التي كانت الألعاب تمارس في الحارة من الأطفال الذين كانت اصواتهم تلعلع ليسمعها كل الجيران، ولتنشر الفرح للكبير والصغير منها : الغماية، الزقطة، أولك يا اسكندراني، البنانير، الحجلة، الاكس،الدحاديل، والمسابقات، ولعب كرة القدم المصنوعة من الشرائط. كانت الألعاب هذه، جماعية، تخلق التنافس الإيجابي والحماسة بين الجميع. وظل الكثيرون من الآباء والأجداد اليوم يحنون لتلك الأيام التي كان فيها الكبار والصغار يتفاعلون بمشاعر انسانية مشتركة. لقد طغت الالة على خصوصية المجتمع في حفظ تراثه القديم مثل الألعاب التي كانت تمارس. بالاضافة، فالتكنولوجيا الحديثة ساهمت في التأثير على التفاعل الاجتماعي والمشاركة الجسدية في الألعاب خارج البيت. ترى الدراسات المتعلقة بالموضوع أن لها تأثيرا سلبيا، على النفسية، فكيف لا وصديقي الطفل يفضل العاب العنف والحروب والمنافسة السلبية على التسوق مثلاً وشراءالشوكولاتة. طفلنا هذا ليس ضحية الالة فقط، بل هناك لوم على الأم أو العائلة التي تسمح له باستعمال الموبايل بشكل دائم، ودون حساب للوقت الذي يجب أن يتحرر فيه في واقع حقيقي وليس افتراضيا..
التكنولوجيا بأنواعها كانت وما تزال نعمة ونقمة في نفس الوقت. لقد كبرنا ونحن نعيش ثورات الحداثة ونحن نستمتع بحياة ساهمت التكنولوجيا الحديثة من توفير الوقت للكثيرين وخلق السعادة والراحة لتكون نعمة. ساعدت كثير من الأدوات والآلات الأمهات والعاملات على تشغيل” الغسالة الكهربائية “ التي تقوم بغسل الملابس في وقت قصير، وأنظف من الغسيل “على اليد” للبعض لتتمكن من عمل شيء آخر بدل ذلك. كما ساعدت تكنولوجيا الاتصالات في مثال آخر الى التواصل السريع بواسطة التليفون أوحامل التليفون النقال ليوفر التواصل ويحل المشاكل ويحقق الطلبات عن طريق الآلة السريعة متعددة الخدمات، ومنها أيضاً التواصل مع الأصدقاء لتمضية الوقت أو للتسلية.
اقتحمت هذه الآلة الصغيرة عالمنا لتؤثر على نمط حياتنا الاجتماعية وأفكارنا سلباً وإيجاباً، بالإضافة لتزويدنا بالمعلومات السياسية والاحداث العالمية بالكلمة والصورة، وكانت نعمة ونقمة في التواصل ونشر الرسائل المفيدة وغير المفيدة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت منصة حتى للزعماء والقادة في محاولات للتاثير على الرأي العام. التكنولوجيا ومستجداتها واستعمالاتها نعمة بلا شك بقدر ما هي نقمة، إذا لم يحسن استعمالها، في جميع الأوقات، وبين الشرائح المختلفة في مجتمعنا الذي أصبحنا نسميه” الذكيّ.” !