شعب لن يموت، وأرض لها أهلها مهما طال الزمن، كانوا يعيشون بسلام وفرح وصداقة مع تراب الوطن الفلسطيني الذي زرعوه محبة واشجارا، وهناء وذكريات الاجداد، وحكاياتهم مع الربيع والدروب والمنازل الآهلة بالنعيم والرضا.
الدكتورة الباحثة والأديبة «عايدة النجار» كان هذا الكتاب الجميل مؤجل في مشروعها الابداعي منذ سنوات، حتى تكتمل كل عناصره من دراسات تاريخية واثرية وسياسية وتراثية ومقابلات شخصية من اهل «لفتا»، تلك القرية المقدسية التي ما زالت آثارها شامخة تتحدى الغدر وتحريف حقائق الحياة الفلسطينية المتحضرة والمتقدمة منذ سنوات طويلة قبل نكبة فلسطين عام 1948، حيث جاء الغزاة لقلب وتزوير حقيقة هذه الارض العربية فلسطين بقراها ومدنها ومياهها وهوائها وتراثها الشعبي الخالد.
قرية جميلة وحزينة
تقول د. عايدة النجار: لعل الدافع الأهم وراء تنفيذ مشروعي (كتابي) «لفتا يا اصيلة» في هذا التوقيت بالذات هو الاستفزاز المستمر والمحاولات المتكررة لدولة الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1998 لوضع المخططات المتتالية لازالة ما تبقى من لفتا المدمرة، التي ظلت حبيبة اهلها، فان يستبدل اسمها باسم «حي ميّ نفتوح» كان المؤشر الواضح لمحاولة اسرائيل محو الهوية العربية الفلسطينية والآثار التراثية والتاريخية والانسانية الشاهدة على التطهير العرقي الذي تقوم به، متجاهلة القوانين الدولية!!.
فقد قامت اسرائيل بازالة مئات القرى الفلسطينية من الوجود، بعدما هجّرت اهلها لبناء المستوطنات اليهودية على انقاضها وتغيير اسماء ما تبقى منها بأسماء عبرية مثل قرية لفتا، وليسكنها اليهود الغرباء القادمون من انحاء العالم بدل الفلسطينيين اصحاب الارض الاصليين، بالاضافة قامت اسرائيل مؤخراً بمواصلة استفزازاتها وهو الطلب من منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ادراج قرية لفتا كموقع للتراث العالمي في اسرائيل!! وهذا مؤشر خطير على مدى اصرارها على محو قرية لفتا من الوجود والذاكرة، خاصة وان لفتا هي جزء من مدينة القدس الشريف.
وفي قراءتنا لهذا الكتاب التأريخي والوثائقي والادبي التراثي الرائع والذي الفته وكتبته الباحثة المتميزة د. عايدة النجار نتوقف كثيراً جداً عند معلومات وحيوات تنبض بالروح والنشاط والتحضر القديم لأهل لفتا والقدس كنموذج لمعظم مئات بل الاف لقرى فلسطين الخالدة.
الجمعية الإسلامية المسيحية
وما يؤكد الوعي السياسي المبكر لأهل قرية لفتا هو مشاركتها بالانتساب إلى احدى الجمعيات الوطنية الفلسطينية وهي الجمعية الاسلامية المسيحية) التي تأسست عام 1918 لتكون لفتا من بين ثمانية عشر عضوا يمثلون القرى المجاورة، وكانت الجمعية قد تأسست مع عدد من الجمعيات الوطنية المعارضة لوعد بلفور، ولمواجهة الصهيونية والهجرة اليهودية لفلسطين، ومن غاياتها المحافظة على حقوق المواطنين المادية والادبية، والنهوض بشؤون الوطن الزراعية والاقتصادية والتجارية واحياء العلم وتهذيب الناشئة.
خطأ سياسة بريطانيا
هربرت صموئيل اول مندوب سام في الادارة المدنية في فلسطين والذي في عهده اعطى ومنح اليهود امتيازات وقوانين تساعد على هجرة اليهود لفلسطين وحيازة الاراضي والتغلغل في وطن الفلسطينيين كتب هو في العام 1922 بعد اضطراب عام 1921 في بيان الحكومة قائلاً:
«اني لحزين اشد الحزن لأنني لم استطع تحقيق الانسجام بين مختلف المذاهب والطوائف في فلسطين.. واني لأسمع من جهات عدة ان الشعب العربي لن يوافق على اغتصاب بلاده واماكنه المقدسة، واراضيه لاعطائها للغرباء.. وان العرب لن يقروا على الاطلاق قيام حكومة يهودية تحكم غالبية السكان من المسلمين والمسيحيين.. الخ.
لفتا وبن غوريون
لقد أُجبر أهل لفتا على ترك بيوتهم في العام 1948، ولم يكن لهم اي خيار للبقاء امام عدو شرس، ويرى بعض المؤرخين انهم تجنبوا مذبحة مؤكدة، بعدما قامت عصابات الأرغون وشتيرن الصهيونيتين بشن هجماتهما بالأسلحة بدءاً بلفتا الفوقا وروميما والشيخ بدرة بالاضافة لهجمات على المحلات والمنازل، لتكون اول مراحل التطهير العرقي ضد الفلسطينيين.
وقد وصف (بن غوريون) القدس ولفتا بعد هذا الاخلاء لجمع من حزب ألماباي بالقول: (من مدخل القدس مروراً بلفتا وروميما لا يوجد هناك عرب، لقد صار الأمر لليهود مئة في المئة منذ ان دمر الرومان القدس قديماً.
المنازل والبيوت الفخمة
ومن المدهش للمتصفح لصور هذا الكتاب ان يلاحظ عشرات الصور لفن العمارة الجميلة والفخمة لمنازل قرية لفتا وذلك قبل عام 1948، اذ ان ما بقي منها ظل محافظاً على رونقه من الحجر الجميل الذي بناه اهل لفتا قبل حوالي مائة عام تقريباً.. حيث لم يكن ثمة يهود في فلسطين سوى ربما 5% أو 10% فقط من السكان الاصليين، انها منازل ما زال لها في القلب والروح منازل ومقامات وذكريات المحبة والحزن كذلك الفرح.
تعتبر بيوت ومنازل قرية لفتا من اجمل بيوت القرى التراثية التاريخية في فلسطين فقد كانت طبيعة لفتا كريمة بحجارتها الجبلية الصلبة التي وفرت لاهل لفتا بناء دورهم من الحجر المميز بالوانه البيضاء والوردية والتصميم المعماري وطريقة البناء.
ويصف المؤرخ «ايلان بابيه» القرية: لقد كانت هذه القرية مثالا رائعا للهندسة المعمارية الريفية بشوارعها الضيقة المتوازية مع منحدرات الجبل، ولعل تشييدها بايدي عمالها المهرة ما جعل دقيق الحجر يطرب لموسيقى الازميل.
وتقول د.عايدة: وظل اسم الحجر المسمسم في ذاكرتي الطفولية حيث كان بيتنا في لفتا مبنيا من هذا الحجر الابيض والمعروف بدرجة ناصع البياض الذي كنا نلعب عليه بيت بيوت.
اما دقيق الحجر في لفتا فقد طرز الجمال بالزخارف الفنية والهندسية والآيات القرآنية لدرء العين والشكر لله على نعمه.
انها دور تراثية كالقصور اذ تشهد ما تبقى من بيوت لفتا التحتا المهجرة والتي لا يزيد عددها عن 60 بيتا على سيرة قرية كانت مبنية على الطراز العربي القديم، دورها واسعة وذات معمار ممزوج بالجمال والامان ومن طابقين الارضي بمثابة مخزن للمؤونة والثاني مكان للمعيشة، عدا عن مساحات واسعة أرضية للحاكورة والطابون والاسطبل وخم الدجاج والخابية (البايكة) لخزن الحطب وادوات الزراعة والحصاد.. الخ.
ثوب الجدات الكنعانيات
والثوب التراثي الفلسطيني ينحدر من زمن الجدات الكنعانيات قبل 7 آلاف سنة في شكله الواسع المكون من عدة اجزاء تُفصل وتُطرز كل قطعة على حدا.
ولقد اتقنت المرأة اللفتاوية – كما نساء القرى الاخرى – في وسط وجنوب فلسطين صنع الجمال ونقله من الطبيعة على ملابسها سواء باللون أم الزخارف أم الازهار، وكانت هناك عدة انواع يختلف لبسها باختلاف المناسبة مثل ثوب المَلَك الاجمل والاثمن لانه حلم كل عروس محظوظة اذا ما كان بين اثواب جهازها الاخرى المطرزة بالفرح والجمال. وهناك اثواب نسائية مطرزة اخرى مثل الجنة والنار، وثوب الشقفة، والرهباني والحبر والغباني.. الخ. كذلك اتقنت نساء لفتا التطريز الملون على شراشف الطاولة والاثاث والوسائد والشالات ومناديل الرأس والمحارم حتى صبغ الخيطان القطنية.
عاقلة.. طبيب وقابلة
وكانت لفتا قد عُرفت باول طبيب لها واول قابلة قانونية وهما الزوجان علي عاقلة الدكتور وعاقلة القابلة القانونية التي تخرجت من الجامعة الاميركية في بيروت وساعدت ابن عمها وزوجها علي عاقلة في مهنة الطب في لفتا وحيفا، ثم في عمان بعد النكبة في مستشفى عاقلة بجبل عمان.
هذا وكان للداية شأن كبير لدى المجتمع القروي والمدني حيث اساليب المباركة بالفرح الكبير والثناء على المرأة التي تنجب الولد وكأنها السبب في ذلك وكانت القابلة أو الداية تتلقى الهدايا من الحماة والام والاب والجد، والنساء يقمن بالغناء قائلات:
تستاهلي يا داية قفة ملانة رمان
يا فاخرة يا حرة يا مبشرة بالصبيان
تستاهلي يا داية قفة ملانة تفاح
يا فاخرة يا حرة يا مبشرة بالملاح
تستاهلي يا داية قفة ملانة ليمون
يا فاخرة يا حرة يا مبشرة بالمزيون
أزهار وحنون وطبيعة جميلة
لقد أهدت الطبيعة الجميلة لفتا ربيعا مطرزاً بالازهار والورد بكل الالوان وكأنها تخضن المكان بِطلة بهية، ولعل هذه الالوان هي من جعلتها نعمة تبعث على السعادة والبهجة لكثرتها وتعدد انواعها وروائحها العطرية، فقد عرفوا: القرنفل والبنفسج والدفلى والسوسن وزهر الخرفيش الشوكي، وقد اهتمت النساء بزراعة النباتات المنزلية وكن يزرعن على البرندات وخاصة في لفتا الفوقا السبع سنين والجميلة والورد الجوري ومدادة الياسمين والحلزون، وزرعت النساء كذلك في القواوير الفخارية أو المعدنية (تنكات الزيت) الفارغة، ما جعل النساء يتبادلن قصفات النباتات حتى ان اهل لفتا من حبهم للازهار اطلقوها على اسماء بناتهن مثل سوسن، ريحانة، خضرة، وردة، زهرة، ياسمين، حنونة، ونرجس.. الخ.
«خُريفية» قرية
وفي كتاب المؤلفة عايدة النجار الكثير جدا من مواضيع الحنين والافراح والامجاد والافتخار بتاريخ وحياة هذه القرية المقدسية التي لا بد للقارئ ان يطلع عليها بنفسه من الكتاب وهي مثل: ذكريات الكبار، المدارس والصحافة، النشاط السياسي لاهل لفتا، اثناء النكبة والتهجير، الاحتفالات بالاعياد الاسلامية والمسيحية وزيارة المقامات، عادات اجتماعية، الحسد، الادوية، غناء الامهات، الطهور، لعب الاطفال، الخراريف، السهر وخروف العيد، ملابس الرجال والنساء، موسم قطف الزيتون، قصص وتراث عن الشجر والنباتات، شخصيات تاريخية مرت من لفتا، الاطعمة والفواكه والعزائم وحفلات الرقص والاعراس وليلة الحنة وليلة الجنة.
وليد سليمان