تشيرالباحثة الدكتورة عايدة النجار في ذكرياتها بأسلوب السيرة والتاريخ عبر كتابها « القدس والبنت الشلبية « أنّ مدينة القدس تحت الانتداب البريطاني كانت عاصمة فلسطين، وهي الفترة التي تناولها الكتاب، مبيّنة أنّها اختارتها لأنها عاشت في القدس بعضاً من ذلك الزمن .

وتقول أنّها تجوّلت في «المكان» القدس المدينة التي تتسع لتشمل أكناف القدس وأبعد في جغرافيتها، مؤكّدة أنّها اصطحبت في جولتها في المكان وبشكل خاص «المرأة الفلسطينية مع ناس المدينة.

من هي الشلبية !

وقد أسمت نساء القدس وفلسطين «بالبنت الشلبية» أي الجميلة، وهي إحدى مفردات المقادسة الذين يتميزون باستعمال الكلمة ومعناها أكثر من غيرهم في المدن الأخرى.

وجاء في المراجع ان كلمة (شلب) هي بلدة جنوب البرتغال أيام حكم المسلمين والعرب للأندلس قديماً .. فقد سكنها جماعة من اهل اليمن واشتهرت بلغتها العربية الفصحى , والنسبة إليها (شلبي) و(شلبية) , وهناك من يقول ان الكلمة أصلها تركية .. حتى ان فيروز تغنت بالبنت الشلبية وهي تقول :

البنت الشلبية
عيونا لوزية
حبك من قلبي
يا قلبي
إنتي عينيا
حد القناطر
محبوبي ناطر
كسر الخواطر
يا ولفي
ما هان عليا
بتطل بتلوح
و القلب مجروح
و أيام عالبال
بتعن و تروح .

وكتاب عايدة النجار يتناول المدينة «وحياة ناسها» في فترة زمنية محدّدة لها خصوصيتها في تاريخ القدس الاجتماعي، أفرزته المرحلة السياسية للانتداب البريطاني على فلسطين (1920-1948) وفيه امتداد لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية للناس في العهد العثماني الطويل الذي سبقه وانتهى بانتهاء الحرب العالمية الأولى.

تقول المؤلفة إنّ إصدار كتابها «يتزامن مع استمرار الممارسات الإسرائيلية بالاعتداء على الممتلكات العربية، وطرد أهل القدس وتفريغها من أهلها المسلمين والمسيحيين وتغيير معالم المدينة، وإقامة المشاريع العمرانية اليهودية على أنقاض الآثار الإسلامية العربية .

حياة هانئة

وتؤكد المؤلفة النجارقائلة : ان لهذه المدينة القدس مشاعر قوية عميقة لديَّ ، لأنني ولدت في أكنافها لفتا ـ القدس ، وترعرعت في أحضانها في طفولتي ، لعبت تحت أشجار التين والزيتون ، زهر الرمان ، والصبار الذي يسيج حواكير ريفه ، وضحكت بصوت عالٍ وأنا «أطير» في القدس العتيقة على المراجيح القريبة من المسجد الأقصى بفستان العيد «الزهري» ، وأنا أكل «الكعك بسمسم» ، وحلاوة العيد البيضاء ، وأتذوق «شعر البنات» كعكباني اللون, فالقدس جزء من وجداني وهويتي التي تحمل عادات وتقاليد الوطن والأهل.

وركزت النجار في مؤلفها الذي صدر في عمان بطبعته الأولى عام 2010 على إبراز دور المرأة الفلسطينية ومسيرة نهضتها ودورها في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية , والمشاركة برفض وعد بلفور والاستعمار الأنجلو صهيوني.

موطني .. موطني

و حب الوطن كان يغيظ بريطانيا والصهيونية، عندما كان أهل فلسطين يخوضون ثوراتهم في الثلاثينات ضدهم بكل سلاح ..حتى بالأغنية والأناشيد , ومنها نشيد موطني للشاعر ابراهيم طوقان الذي لا يزال نشيد فلسطين :

مــوطــنــي مــوطــنــي
الجـلال والجـمال والســناء
والبهاء فـــي ربــاك
والرجـاء فــي هـــواك
هـــــل أراك
سـالما مـنـعـما
وغانـما مـكرما
هـــــل أراك
مــوطــنــي مــوطــنــي
ذلـنـا المـؤبـدا
وعيشـنا المنكـدا
لا نريــــــد بـل نعيــــد
الحسام و اليـراع
لا الكـلام والنزاع رمــزنا
مـجدنا و عـهدنا
وواجـب إلى الوفا يهــــــزنا
عـــــــزنا غاية تـشــرف
و رايـة ترفـرف
يا هـــنــاك فـي عـــلاك
قاهرا عِـــداك .

وكان دور المرأة في القدس وفلسطين إيجابياً رغم بعض العادات والتقاليد التي كانت تكبلها , فقد قامت بدورها التقليدي كزوجة وأم وربة بيت وناشطة في كل المجالات كذلك .

فالقدس ليست مجرد مكان إنها زمان أيضا، والزمان هذا لا فعل له بدون الناس الذين يمر عليهم، ويؤثر فيهم، ويتفاعلون معه فيتركون ما أغنوا به المكان ويمضون مفسحين لآتين غيرهم، بعد أن عاشوا حياتهم الخاصة والمختلفة عمن سبقهم.

ومع كتاب البنت الشلبية نتعرف على كل جوانب الحياة في القدس، على محبة ناس القدس لبناء بيوت جميلة فواحة بالعطر،وعلى نساء يتنافسن على تجميل بيوتهن ويقمن بكل أنواع النشاطات الثقافية والخيرية والوطنية الكفاحية .

الشعب العربي لن يوافق !

ومن الكتاب الآخر للباحثة د. النجار» لفتا يا أصيلة « تذكر فيه ان :

هربرت صموئيل أول مندوب سام في الإدارة المدنية في فلسطين والذي في عهده أعطى ومنح اليهود إمتيازات وقوانين تساعد على هجرة اليهود لفلسطين وحيازة الاراضي والتغلغل في وطن الفلسطينيين كتب هو في العام 1922 بعد اضطراب عام 1921 في بيان الحكومة قائلاً:

«إني لحزين أشد الحزن لأنني لم أستطع تحقيق الإنسجام بين مختلف المذاهب والطوائف في فلسطين.. وإني لأسمع من جهات عدة ان الشعب العربي لن يوافق على إغتصاب بلاده وأماكنه المقدسة، وأراضيه لإعطائها للغرباء.. وان العرب لن يقروا على الاطلاق قيام حكومة يهودية» .

القدس المكان والإنسان

واستعادت الدكتورة النجار ما كانت القدس عليه قبل نكبة 1948، ونشاط أهلها الذين كانوا يعملون لتقدم بلدهم ونمائه , رغم الانتداب البريطاني الغادر الذي أصدر وعد بلفور, ووعد اليهود بدون حق ‹بوطن قومي لليهود› , على حساب أهلها العرب من مسلمين ومسيحيين , الذين لعبوا دورا كبيرا في تطور الحياة والمشاركة الفاعلة لبناء الوطن السليب.

ووصفت د.النجار في بحثها وذكرياتها صورة مدينة القدس المكان الذي له خصوصية داخل المدينة العتيقة , والحياة الاجتماعية التي شكلت نمطاً ثقافياً في البناء والملبس والمأكل , والتعليم والعلاقات بين الناس والعادات والتقاليد.

واسترجعت صورة البيوت الفلسطينية داخل السور وخارجه , التي تتميز بالحجر , الذي له أسماء ‹المسمسم، والملطش، والطبز. التي بُنيت بأيدي العمال الفلسطينيين المهرة , وبحجارة اقتلعت من أرض فلسطين الطيبة.

ووصفت كيف توسعت المدينة إلى خارج السور، حيث ترك الكثيرون إلى منازل جديدة أوسع وفي أحياء جديدة مثل القطمون والبقعة والشيخ جراح والثوري وغيرها .

ورغم ذلك احتفظ أهل القدس بمنازل الآباء والأجداد العتيقة التي ظلت عامرة بالأجيال المتتالية .. لأن القدس العتيقة لا مثيل لها بين المدن ! فهي ليست مدينة من حجارة وأزقة وأقواس وأسواق وزوايا وحمامات ومدارس وقصور وأضرحة وأحواش , وأسوار لها أبواب تاريخية كانت تحمي المدينة من الغزاة والطامعين بها .

بل ان المدينة مقدسة بالإضافة الى انها عبقٌ من التاريخ والحضارة المتعددة الجمال .. تشهد عليه العين والذاكرة اليوم , رغم ما لحقها من أذى وتغيير تحت الاحتلال الإسرائيلي.

ولعل ميزتها الدينية داخل الأسوار التي تضم الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية لهي أكبر شاهد على عمق الارتباط الروحي، خاصة وصوت أذان المساجد والمسجد الأقصى تمتزج مع أجراس كنيسة القيامة, التي يؤمها الناس من جميع أنحاء العالم للحج والبركة.

العلاقات الاجتماعية

و لإثبات الحياة الثرية لأهل مدينة القدس ولشعب لا يقايض بها أي شيء في الدنيا ؛ أشارت الدكتورة النجار للعلاقات الاجتماعية والإنسانية التي كانت تربط الأمكنة في القدس , مع إعطاء أمثلة عن روائح الأطعمة المتسللة من نوافذ المطابخ والتي كانت تشي بنوع طعام ذلك اليوم كالملوخية أو المحاشي ورائحة زيت السيرج الذي اشتهرت به القدس، أو رائحة السفيحة الارمنية المعبقة بالثوم والفلفل الحار المنتشرة في حارة الأرمن.

ولعل بائع الكعك بسمسم كعك القدس المشهور يضيف للحياة الاجتماعية خصوصية وصوته ينادي على أحد الأطعمة التراثية التي ظلت في ذاكرة الأجيال.

وهناك ذكريات من روايات الأمهات والجدات، والحنين للقدس أيام زمان.. فحركة أولاد الحارة كانت تضفي حياة وخصوصية وهم يلعبون ويتنافسون بالكرة حتى مغيب الشمس ! مقارنة ما يجري في القدس اليوم من تخريب تحت الاحتلال , وحرمان الأطفال من حقوقهم في اللعب والنمو الطبيعي.

وركزت على تبيان طبيعة الأرض الفلسطينية الزراعية الخصبة , وجمال الريف الفلسطيني , وثرائه بالزهور البرية التي يتجاوز عددها الـ500 نوع , بالإضافة لأشجار الزيتون المعمرة , التي تقتلعها إسرائيل اليوم لبناء المستوطنات عليها ! .

التعليم والنشاط الادبي

وفي البحث التاريخي والذكريات نتعرف على اهتمام أهل فلسطين والقدس بالتعليم , حيث كان أبناء القرى والمدن الفلسطينية الأخرى يؤمون القدس للدراسة في مدارسها العريقة .

ومن مدارس الأولاد : الإبراهيمية والرشيدية وروضة المعارف والكلية العربية التي خرجت أبرز رجالات الأردن وفلسطين، بالإضافة لمعهد الحقوق في القدس.

نساء القدس

وتعلمت بنات القدس وفلسطين في دار المعلمات ليصبحن معلمات، بهذه المهنة التي كانت مقبولة للبنات، كما أتقنت بنات فلسطين والقدس اللغات الأجنبية ودرسن في مدارس أجنبية , منها الشميت، والمدرسة الانكليزية والفرير والسلزيان، وكان من بعضها مدارس داخلية.

وحظيت بنات المدارس الحكومية بدراسة اللغة العربية السليمة , من مناهج قوية وضعها السكاكيني , مع نخبة من المعلمين الاكفاء الذين درسوا في الخارج.

ومن أبرز مدارس البنات الحكومية : مدرسة المأمونية في باب الساهرة التي لا زالت لليوم الافضل رغم الاحتلال.

وذكرت النجار أسماء نساء فلسطينيات رائدات ومبدعات سجلن اسمهن في التاريخ منهن: اسمى طوبي ونجوى قعوار وسميرة عزام وعنبرة سالم الخالدي ومتيل مغنم وكيتي انطونيوس، بالاضافة للرائدات في الصحافة ماري شحادة التي كتبت في جريدة زوجها بولس شحادة (مرآة الشرق) وساذج نصار التي برزت في جريدة زوجها نجيب نصار (الكرمل) وقد لعبت دورا سياسيا بين النساء.

وقد عملت النساء قبل النكبة في الإذاعة في برامج المرأة والطفل , وفي قراءة نشرة الاخبار , وأبرزهن فاطمة البديري.

وشاركت المرأة القروية في العلم والتعليم , وظهرت نشيطات رائدات بينهن عريفة النجار من قرية لفتا , التي درست في مدرسة السلزيان , كما برزت بين النساء مواهب موسيقية وفنية.

أول مؤتمر نسائي

وأول مؤتمر لنساء فلسطين كان عام 1929حيث شاركن في العمل الاجتماعي واغاثة الفقراء منذ العشرينيات , وقد وُجدت عدد من الجمعيات الخيرية المسيحية والإسلامية في القدس ويافا وحيفا ونابلس ورام الله وبيت لحم وغيرها , وقمن بأعمال تدل على وعيّ ونهضة نسائية متقدمة .

وبعد ذلك تطور هذا النشاط ليصبح مسّيسا بعد هبة البراق، التي حاول اليهود الادعاء بأن البراق لهم ويسمونه حائط المبكى.

وسقط الشهداء دفاعاً عن المقدسات الإسلامية بينهم من النساء. وشهدت القدس نقطة انطلاق النشاط النسائي السياسي، حيث عقد أول مؤتمر لنساء فلسطين بحضور النساء من جميع المدن , واجتمعن في بيت طرب عبد الهادي زوجة عوني عبد الهادي، السياسي الوطني، وشكلن لجنة برئاستها واتخذن قرارات حملنها الى المندوب السامي، ومن إحداها رفض وعد بلفور.

كما شهدت القدس مظاهرة النساء اللواتي تجولن في 80 سيارة جابت شوارع المدينة والرجال يرشقوهن بالزهور.

واستمرت النساء بالعمل الوطني، إذ لم يعق الحجاب النساء من السفر للقاهرة عام 1938 لحضور أول مؤتمرعربي نسائي في التاريخ لمناقشة القضية الفلسطينية برئاسة هدى شعراوي زعيمة المرأة المصرية.

واستمرت النساء بالعمل السياسي بتشجيع بعض الرجال المتنورين , ومن خلال الجمعيات النسائية والاتحادات , ولا زالت المرأة الفلسطينية تخوض معركتها مع العدو الصهيوني الذي يتحكم بغالبية السكان من مسلمين ومسيحيين .

ويُذكر أن الدكتورة عايدة النجار تحمل درجة الدكتوراة (Ph.D) من جامعة سيراكيوز نيويورك ، الولايات المتحدة الأميركية (1975) في (وسائل الأعلام والاتصال الجماهيري – والسياسة). ونالت درجة الماجستير (Ms.c) صحافة وتنمية من جامعة كانسس الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت درست ليسنانس المرحلة الجامعية الأولى في جامعة القاهرة ، تخصص علم الاجتماع، ولها العديد من المؤلفات في السير الخاصة والتأريخ والصحافة .

 وليد سليمان

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment