يسجل للدكتورة عايدة النجار مثابرتها وصبرها وقدرتها على الالتزام بمنهج صارم من البحث والتدقيق والمقارنة والاستنتاج الى ان خرجت على القراء والباحثين بهذا الكتاب القيم ليس فقط الجدير بالقراءة بل والاقتناء لكل من يهمه ان يعرف عن مرحلة تاريخية مهمة من عمر القضية الفلسطينية وحركتها الوطنية وصحافتها في نصف قرن حاسم بدأ مع صراع دولي (هو في حقيقة الأمر اوروبي بامتياز) استهدف تقويض «الرجل المريض» (الدولة العثمانية) والافساح في المجال الى قوى الاستعمار كي تملأ «فراغ» غياب الامبراطورية العثمانية التي دقت ابواب فينا في النصف الثاني من القرن السابع عشر وان لها الآن (بداية القرن العشرين) ان تتمزق وتتشظى ثم تسقط بفعل ما اصابها من وهن وفساد وتمزق وصراع داخلي وبروز قوى «مشبوهة» تدعو الى التتريك وازالة دولة الخلافة (…) واقامة مجتمع علماني نجح كمال اتاتورك في النهاية في اقامته وما يزال نظامه قائما حتى الآن بحراسة من العسكر (…) وان كانت قبضة العلمانيين او الأصح القول «الاتاتوركيين» آخذة في التراخي بفعل عوامل كثيرة ليس اقلها الشيخوخة والجمود والقمع ومصادرة الحريات من قبل العسكر والاجهزة الامنية ناهيك عن التطور الذي اصاب الحياة العامة التركية والمتغيرات الدولية والاقليمية العاصفة بكل ما يصحبها من هبوب رياح عاتية لا يستطيع عسكر تركيا تجاهلها اذا ما ارادوا الانسجام مع مطالب شعبهم وتحقيق حلم حصول تركيا على بطاقة الاتحاد الاوروبي. المهم لم نبتعد كثيرا عن كتاب د. عايدة النجار الموسوم بـ صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن 1900 – 1948، وهو اختيار زمني وتوثيقي موفق لأن بداية تلك الفترة الزمنية وكما اسلفنا كانت مؤشرا على طبيعة التحول الذي بدأ يفرض نفسه على المنطقة العربية في سنوات تحلل الدولة العثمانية ثم صدور وعد بلفور وما راج عن «تمنع» السلطان عبدالحميد الثاني في التجاوب مع زعماء الحركة الصهيونية ثم ما تلا ذلك من استعمار بريطاني فرنسي للمنطقة العربية كانت فلسطين من «نصيب» الانجليز وحدوث ثورات متتالية في فلسطين كثورة البراق وثورة 36 والاضراب العام.. حيث انتهت فترة الانتداب البريطاني ببروز دولة يهودية في فلسطين عام 48 بعد ان «قبل» اليهود قرار التقسيم الشهير (29/11/47) ورفض الفلسطينيون والعرب هذا القرار. نحن إذا أمام «عنوانين» كبيرين، اكثر اتساعا وشمولا في فضاءيهما الزمني والبحثي وهذا ما يلفت الانتباه في قدرة الدكتورة النجار على قبول التحدي (بمعناه البحثي) وعدم التنازل عن مغزى وابعاد الربط الضروري وليس فقط الايحائي والتاريخي بين الصحافة دورا وتوثيقا وبين الحركة الوطنية الفلسطينية في تلك الفترة التاريخية والخصبة والصعبة بكل ما حفل به سلوك المستعمرين من غطرسة وقمع وقتل للفلسطينيين وتواطؤ مع الصهاينة في الآن نفسه الذي كان فيه الفلسطينيون يعيشون حالا من الفرقة والانشقاقات وافتقاد والزعامة وتشرذمها وانعدام تجربتها السياسية والحزبية وسذاجتها احيانا في فهم طبيعة وابعاد الخطوات والقرارات الاستعمارية والتي كانت الصحافة الفلسطينية تضيء عليها وتقوم بدور ريادي ازعج سلطات الانتداب فاتخذت بحقها اجراءات قمعية وصلت حد الايقاف والمصادرة وان كان دور الصحافة لم يقتصر على الجانب الاخباري والسياسي بل تعداه الى الاسهام في تثقيف العامة وحث «الفلاحين» كونهم اكبر الشرائح الاجتماعية عددا وتأثيرا على المشاركة في العمل الجماهيري بل وفي شكل لافت تقف المؤلفة في فصل كامل (الفصل الخامس) عندما اسهمت به الصحافة بين عامي 37 – 39 في تغطية المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية الكبرى (37 – 1939) بما في ذلك «المغامرة» بنشر بيان اللجنة العربية للشعب الفلسطيني في المدن والقرى لتوحيد لباس الرأس بالكوفية والعقال والهدف هو (حماية الثوار والذين كانوا يلبسون الكوفية والعقال، والتمويه عليهم). سيكون صعبا تلخيص الكتاب الذي يقع في حوالي 550 صفحة من القطع الكبير وهو صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر لكن ما يطمئن القارىء (مثلي) الذي قرأ الكتاب تسعة ايام في شكل متقطع لاسباب مختلفة انه يتواصل مع فصوله ليس فقط لأنه صيغ بلغة سهلة (حتى لا اقول سلسة) وتوثيقية ببعديها التاريخي والارشيفي ما ساعدني (كقارىء) في التعامل مع كل فصل على حدة وهو ما شعرت انني تجاوزته بنجاح في هذا الكتاب القيم والمحتشد بكم هائل من المعلومات والوثائق والمقابلات الشخصية والمترافق (وهو مهم وحيوي) مع الربط اللافت والذكي بين دور الصحافة في النضال الوطني الفلسطيني وخدمتها للقارىء العادي وللحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها التي وجدت متنفسا في الصحافة وان كانت الاخيرة دفعت ثمنا جراء تلك «الخدمة» والتي يصعب النظر اليها من جانب مادي او مهني بحت.. خالص القول ان كتاب د. النجار جدير بالقراءة والاقتناء وهو كلام لا يقصد المجاملة والشكر بل يذهب الى تقدير على هذا الجهد في زمن يستسهل كثيرون اصدار كتب لا تفيد ولا تضيف جديدا لقارئها.
Post navigation
Previous Post
الصحافة العربية المبكرة أيقظت الروح الوطنية في مجتمعاتها