لعل الأهمية التي ينطوي عليها كتاب صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن 1900 _ 1948 للدكتورة عايدة النجار، أن تتبدى في تسليط الضوء على جانب حضاري من جوانب حياة المجتمع الفلسطيني في النصف الأول من القرن العشرين، ممثلا في الصحف الكثيرة ذات الاهتمامات المتنوعة التي أسسها صحافيون فلسطينيون، وفي النشاط الصحافي الذي انشغل به هذا المجتمع وشكل ركنا أساسيا من أركان حراكه الإعلامي والثقافي، منذ بدايات القرن الماضي حتى وقوع النكبة الفلسطينية.
ذلك أن الدعاية المغرضة التي روجت لها الدوائر الصهيونية والاستعمارية، منذ بدايات الغزوة الصهيونية لفلسطين حتى الآن، ما زالت تصر على أن فلسطين كانت أرضا قاحلة لا وجود فيها لمجتمع فلسطيني، ولم تشهد أي مظهر من مظاهر التحضر أو الوعي، وظلت كذلك حتى جاءت الحركة الصهيونية التي ملأت هذه الأرض خيرا وبركة، الأمر الذي يبرر لها وللقوى الاستعمارية التي دعمتها وأيدتها، احتلالها للأرض، وما ترتب على ذلك من مجازر تعرض لها أبناء الأرض الشرعيين انتهت بتشريد الجزء الأكبر منهم خارج وطنهم، وذلك لإنجاح المشروع الصهيوني القائم على إزاحة الفلسطينيين من وطنهم والحلول محلهم، وتدعيم ذلك مع الزمن بالقوة الغاشمة وبالإسطورة التي لا تصمد أمام أي امتحان.
ولقد انصب اهتمام عدد غير قليل من الدارسين منذ وقوع النكبة حتى الآن، على تكريس دراساتهم للنظر في تاريخ فلسطين الحديث وما يتضمنه من ثورات ومظاهر كفاحية متعددة ضد وعد بلفور والهجرة الصهيونية والاستيلاء على الأرض، وكذلك تسليط الضوء على الحركة الوطنية الفلسطينية ونضالها متعدد الأشكال، وفي الوقت نفسه تسليط الضوء على التناقضات الداخلية لهذه الحركة وصراعاتها التي ألحقت بالنضال الوطني الفلسطيني أضرارا بالغة. وكان الحديث عن الصحافة الفلسطينية يأتي في ثنايا هذا الاهتمام الذي كان يشغل بال هؤلاء الدارسين، وما الصحافة من وجهة النظر هذه سوى أداة مكملة من أدوات الحركة الوطنية الفلسطينية، يجري توظيفها للانتصار لتيار سياسي فلسطيني على حساب تيار سياسي آخر، أو لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
ما فعلته الدكتورة عايدة النجار، هو أنها قلبت المعادلة المتعارف عليها، وراحت تدرس الصحافة الفلسطينية باعتبارها حقلا مستقلا من الحقول الحضارية التي أبدع فيها الفلسطينيون، وهي من هذا المنظور تدلل على تبلور المجتمع الفلسطيني وعلى امتلاكه المؤهلات التي تضعه في مصاف الشعوب الأخرى، ما يبطل الحجة الاستعمارية بفرض الوصاية والانتداب على هذا المجتمع إلى حين تمكنه من إحراز النضج الكافي للتحكم في شؤونه بنفسه من دون وصاية أو انتداب!
ولعل الحقائق التي كشف عنها كتاب الدكتورة عايدة النجار، والمعلومات الكثيفة التي حفل بها حول الصحافة والصحافيين، أن تؤكد على صحة خيار الكاتبة حينما اتخذت من الصحافة مادة أساسية لكتابها، مدللة على أن الصحافة لم تكن جسما تابعا للحركة الوطنية من دون امتلاك مبادراتها الخاصة. صحيح أن صحفا غير قليلة ظهرت في نصف القرن الذي سبق النكبة واضطلعت مباشرة بتمثيل أحزاب وقوى سياسية منخرطة في الحركة الوطنية الفلسطينية، وأشرف على رئاسة تحريرها صحافيون ملتزمون بأحزاب وقوى الحركة الوطنية، أو مقربون من هذه القوى وتلك الأحزاب. غير أن ثمة حقائق أخرى تتجاور مع هذه الحقيقة التي لا تقلل من شأن الصحافة، منها أن كتابا وصحافيين وشعراء وأدباء كثيرين كانوا يكتبون في هذه الصحف، ولهم اجتهاداتهم الخاصة في الشأن الوطني، التي قد تتفق وقد تختلف مع اجتهادات هذا الحزب أو ذاك من أحزاب الحركة الوطنية. كذلك، فإن العاملين في الحقل الصحافي كانت لهم مبادراتهم النابعة من الحقل نفسه الذي ينشطون داخله، وكانت لهم في الفترات المصيرية الحاسمة، رؤاهم التي يحكمها قاسم مشترك، في ما يتعلق بالغزوة الصهيونية وبسياسات سلطة الانتداب، وبالقيود التي تفرضها هذه السلطة على الصحف والصحافيين، جراء تأييدهم لنضال الحركة الوطنية الفلسطينية، وجراء مواقفهم الرافضة للسياسات المتحيزة الجائرة التي دأبت على انتهاجها هذه السلطة الانتدابية لما فيه مصلحة المشروع الصهيوني في فلسطين.
ولم تكتف الكاتبة بتتبع أنشطة الحركة الوطنية كما ظهرت تباعا في الصحف الفلسطينية، وإنما راحت ترصد حركة المجتمع بكامله كما تبدت في هذه الصحف، فاهتمت بالنضال الوطني للنساء الفلسطينيات وبالأنشطة النسوية المختلفة التي كانت تغطيها الصحف بدءا من دورة لتعلم الخياطة مرورا بتفاصيل كثيرة أخرى وانتهاء بانعقاد مؤتمر نسوي ذي أهمية وشأن. واهتمت كذلك بأنشطة العمال والفلاحين وبالأنشطة الثقافية والأدبية للمثقفين والكتاب والشعراء، وأبرزت أسماء الناشطين في حقول الصحافة والثقافة، وسجلت مقتطفات من سيرهم الذاتية، ووضعت كشفا تفصيليا بأسماء الصحف والمجلات التي ظهرت في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي حتى وقوع النكبة، وبتواريخ ظهور هذه الصحف وتوقفها عن الصدور، ولم تغب عن بالها معاناة الصحافة الفلسطينية وأنواع العقاب التي تعرضت لها بسبب مواقفها الوطنية الشجاعة، وكذلك أنواع العقوبات التي تعرض لها صحافيون فلسطينيون وصلت في حالات غير قليلة حد تجرع مرارة المعتقلات والسجون.
إنه كتاب حافل بالتفاصيل، وقد حرصت مؤلفته على عدم الاكتفاء بسرد المعلومات، بل إنها اعتمدت رؤية منهجية واعية في النظر إلى المعلومات والوثائق، بحيث تفسرها وتعللها وتضعها في إطارها الصحيح المرتبط بطبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تجتازها فلسطين آنذاك، ولم تعمد إلى تزيين صورة المجتمع الفلسطيني بحجة الشفقة على شعب يكابد من ويلات الاحتلال، فقد كشفت بموضوعية وصدق عما كان ينتاب هذا المجتمع من صراعات غير مبدئية ومنازعات شخصية لا تتورع الصحافة عن التورط فيها بهذا الشكل أو ذاك، وذلك لأخذ العبرة ولتعلم الدروس المستفادة من تلك التجربة المريرة، لكي نتجنب في حاضرنا الراهن ما يمكن أن يوقعنا في المزالق نفسها التي عانى منها شعبنا في ماضيه القريب، خصوصا أن الصراع ما زال مفتوحا على شتى الاحتمالات، والعدو ما زال يمعن في تهويد ما تبقى من أرض فلسطين، وفي التنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية.
محمود شقير