ينتظم هذا الكتاب بين دفتيه جملة من الموضوعات والقضايا المتصلة بعنوانه العريض حول صحافة فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين. يقع الكتاب في (244) صفحة قسمته المؤلفة إلى تسعة فصول تفاوتت في الكم والنوع من فصل لآخر وحاولت أن تغطي موضوعات شتى تناولت خلالها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين وكذلك الثقافية التي كان من شأنها التأثير في صحافة فلسطين ونشوئها وتطورها. كما حاولت المؤلفة توضيح أن الصحافيين والكتاب وبخاصة ما لهم من صفة القيادة والتأثير وتحريك الجماهير.
والحق يقال أن الملاحق التي زودت بها الكاتبة هذا الكتاب هي إضافة جيدة لمادته ولها من الفائدة ما ينعش ذاكرة القارئ ويعرفه بأقلام وصحف فلسطينية تاريخية صدفت في حقبات متفاوتة من تاريخ فلسطين. ناهيك عن بعض التراجم لصحافيين فلسطينيين أثروا الحركة الصحفية.
وترى الباحثة أن ما يميز هذا الكتاب ـ كما جاء في مقدمتها له ـ هو إلمامه بجوانب مختلفة تتصل بالصحافة الفلسطينية وتؤثر فيها: من عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وربط هذه العوامل مجتمعة. وهي تقرر في موضع آخر من المقدمة أن كتابها هذا جاء استجابة لتشجيع بعض المختصين لما له من دور في سد الفراغ في مثل هذه المعلومات الذي تحتاجه المكتبة العربية.
في الفصل الأول من هذا الإصدار تقدم الباحثة مدخلا عاما يتعرض لوضع فلسطين في الفترة موضع الدراسة، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحديث هنا ينصرف إلى السكان وطبقاتهم الاجتماعية والمهنية من ملاك وعمال وفلاحين. ولا تنسى في هذا المقام أن تعرض وضع التعليم والثقافة والمدارس، آتية على ذكر بعض المدارس المشهورة والكليات مثل الكلية العربية والرشيدية وغيرهما وموردة أيضا أسماء بعض القيادات الفكرية والثقافية آنذاك وموضحة دور المثقفين الفلسطينيين وحسهم القومي والوطني. وثم تتطرق إلى الدور الكبير الذي أدته الصحافة العربية في فضح الحركة الصهيونية قبل فترة الانتداب، وتعمد بعد ذلك إلى عرض موجز للصحافة الفلسطينية نشوءا وانطلاقا متعرضة للعوامل التي ساعدت في هذه المسيرة، وتركز على دور هذه الصحافة الوطني وبخاصة تصديها لوعد بلفور والمؤامرات على الوطن. وتورد نبذة عن إنشاء الجمعيات الوطنية تحت الاحتلال البريطاني موضحة دورها القومي وبخاصة في غياب الصحافة الفلسطينية.
يتحدث الفصل الثاني عن الانتداب البريطاني بين (1920-1929) ومقاومة وعد بلفور وما أدته الصحافة في فلسطين آنذاك من فضح الصهيونية والاستعمار البريطاني، عارضة تطور الصحافة الفلسطينية في هذه الفترة وظهور صحف جديدة مثلت الكتل والتيارات الوطنية، مبرزة دورها في المحن ومواجهتها للطامعين وأعداء الأمة. ومع هذا فالمؤلفة تورد سلبيات … مسيرة الصحافة الفلسطينية آنذاك وبخاصة لدى ظهور النعرات الطائفية ومعارك الكتل السياسية، مما يعد إحقاقا للحق من جانب الباحثة، وبخاصة وأن تلك الصحافة انحدرت ـ في خضم تلك الحقبة ـ إلى مهاترات شخصية وطائفية. كما تورد الباحثة في ختام هذا الفصل جزءا عن الصحافة والمرأة الفلسطينية يشرح دور المرأة الفلسطينية النضالي.
وتبين الباحثة في الفصل الثالث من الكتاب المرحلة النهائية للصحافة الفلسطينية بعد هبة البراق (1929) والتي امتازت بظهور الدور الوطني وتناميه، وتغطياتها ثورة القسام وإذكائها الروح الوطنية. وجاء هذا الفصل باقتباسات من الصحافة يوضح هذا الدور ـ كما جاء على ذكر وضع قانون الصحافة السيء في العام 1933 وقوانين الطوارئ ذات الأثر السلبي والظالم للشعب والصحافة معا. ويعرض هذا الفصل صحف الأحزاب الفلسطينية موضحا أن أولويات الصحف ما بين العامين 1930-1935 تركزت في: الأرض والفلاحين، الكتاب الأبيض، الكتاب الأسود، نشاطات الحركة الوطنية، وانتقام السلطة من الصحافة. وكمثال بارز فقد جاء اهتمام الصحافة كبيرا بإعدام بريطانيا للمجاهدين الثلاثة: عطا الزير، محمد جمجوم، فؤاد حجازي في العام 1929، وخصص بعضها أعدادا مستعجلة وخاصة. ويواصل الكتاب في هذا الفصل وبإسهاب شرح مواكبة الصحافة للأحداث الجسام في فلسطين والنضال في سبيل الحركة ومقارعة المحتلين والصهاينة، فأصبحت هذه الصحافة مثل جماعات الثوار تخيف بريطانيا، فكان قانون الطوارئ ـ سابق الذكر – والتضييق على الصحفيين.
ويعد الفصل الرابع امتداد لموضوع تطور الصحافة موضحا دورها البارز في إسناد إذكاء نار الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936، والإضراب الكبير بما شكل من مادة دسمة للصحافة آنذاك، وكانت فرصة لإبراز بطولات الشعب الفلسطيني، ومضي الصحفيين في دورهم هذا رغم ما تعرضوا له من سجن وضرب. وجاء إضراب الصحفيين في 28-30/5/1936 ليجسد الوقوف مع النضال والشعب. ولقد جاء ذلك في قرارات اتخذها قادة الصحافة آنذاك من إضراب، وعدم نشر بلاغات رسمية، وتحية اللجان العربية المناصرة لفلسطين، وامتناع الصحف الفلسطينية عن نشر أي إعلانات يهودية، واستنكار اضطهاد الحكومة للصحفيين. لكن الصحافة استجابت للوساطات العربية ـ بعد أن أدت دورها على خير ما يكون ـ ورجعت لتصنيف كيف عادت حياة فلسطين الطبيعية إليها بعد الأحزاب. ورغم هذا فقد أقدمت السلطات البريطانية على إيقاع الجزاء والعقاب بالصحف الفلسطينية التي أججت نيران الإضراب الكبير.
وخصصت الباحثة الفصل الخامس لتبيين دور الصحافة في المرحلة الثانية من الثورة الكبرى (1937-1939) موضحة أن الثورة كانت مادة الصحافة بما نشرته وتناقلته من مجريات الأحداث في تلك الفترة، حيث استمر صدور صحف جديدة كل سنة، وصحف حلت محل صحف أوقفتها السلطة المنتدبة. وبينت الكاتبة مواد الصحافة وأولوياتها في تلك الفترة مثل: الثورة، تصديها لمشروع التقسيم (1937)، مؤتمر بلودان، والمؤتمر النسائي الشرقي في القاهرة، والكتاب الأبيض الشهير في العام 1939، واهتمام الصحافة بإبراز دور الفلاحين في الثورة ونشر بيان اللجنة العربية الكبرى وترويجها للكوفية والعقال كلباس موحد للرأس لحماية الثوار كما نشرت في نهاية الفصل صورا للمعتقلين.
وفي جزء هام من هذا الإصدار تبرز الكاتبة ما قامت به الصحافة من جهود وكونها أصبحت مصدر معلومات لنقل أخبار الثورة والثوار للمعتقلين والسجناء. كذلك، ما قامت به الصحافة من فضح أساليب المحتلين في التعذيب والبطش بحقهم موردة لأسماء بعض الشخصيات التي عانت من السجن والاعتقال، كما نشرت القصائد الحماسية والشعر الثوري الذي يحرض على المقاومة والنضال. ولم تنس الباحثة أن تضع في نهاية هذا الفصل (للتوثيق) نماذج مما نشرته الصحف في تلك الحقبة وبخاصة الكاريكاتير السياسي. كما أن الكاتبة تثبت حقيقة افتخار الصحافة الفلسطينية آنذاك بالعقاب الذي تعرضت له واعتبرته وساما للشرف تتباهى به.
ويتحدث الفصل السابع (وليس الثامن كما أثبتت المؤلفة في مقدمتها) عن الإذاعة الفلسطينية التي أنشأها الانتداب للرد على الدعاية الألمانية الموجهة، وفي محاولة للوصول لقطاع عريض من الناس. وأبرزت الباحثة هنا دور موظفي الإذاعة العرب ومساهماتهم وأوردت أسماء بعضهم، وكذلك أتت على ذكر مشاركة المثقفين العرب في برامج الإذاعة، بما نتج عن منافسة الإذاعة للصحافة في وقت الركود السياسي (1942-1948)، دون أن تنسى إثبات هجرة المذيعين الفلسطينيين، في غمرة تلك الفترة، للدول العربية للعمل في إذاعاتها.
وأما كتم صوت الفلسطينيين وآليات القمع تحت الانتداب البريطاني فكانت مادة الفصل الثامن ـ وأيضا ليس السابع كما تقرر الباحثة في مقدمتها للكتاب ـ وقد تضمن هذا الفصل ما أصدرته سلطات الانتداب من قوانين للمطبوعات ومكتب لها وحددت مسؤولياته، وعمدت الباحثة إلى تزويد الفصل بتقارير سرية كانت ترسل لوزارة الخارجية في لندن.
في الفصل التاسع، تناولت الباحثة المرحلة الأخيرة للصحافة الفلسطينية قبل وأثناء قيام دولة الاحتلال في العام .1948 وتعرض هذا الفصل لما برز من أحداث فرضت نفسها وعكست النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما ظهر أخيرا من تحيز الانتداب البريطاني السافر للصهاينة وإيصال القضية إلى الأمم المتحدة وصدور قرار تقسيم فلسطين الجائر سنة 1947، حيث قامت بعد ذلك دولة الكيان الصهيوني. وتقرر الكاتبة ـ وهو من أبرز أجزاء هذا الفصل والكتاب ربما ـ أن أولويات الصحافة الفلسطينية في تلك المرحلة تركزت في محاولة تعزيز الروح القومية العربية، وإبراز دور القيادات الفلسطينية السياسية وإنشاء صندوق إنقاذ أراضي فلسطين، وجهودها لإحياء الروح المعنوية. كما توضح دور الصحافة في مواجهة العصابات الصهيونية ونشاطها المحموم وبضمنها مذابحها ضد الفلسطينيين.
وبعد فإن هذا الكتاب يعد إسهاما جيدا في الجهد التوثيقي الصحفي. ومن المؤكد أنه محاولة جادة لإحقاق الحق ونسبة الفضل الصحفي إلى أهله. على أن الملاحق التي أثبتتها الباحثة في نهاية الكتاب تعد جزءا بارزا من الكتاب وأضافت لمادته جهدا توثيقيا جيدا ضم معلومات أساسية وببليوغرافية عن الصحف والإعلاميين وسيرهم. وعموما فهو كتاب قد أضاف إلى المكتبة لبنة أخرى في مضمار التوثيق ويعد إسهاما في التأريخ للوعي الفلسطيني بما يمكن أن يسند الصراع مع الآخر لإحقاق الحق.
د. أسعد عبد الرحمن