في كتابها بنات عمّان أيام زمان: ذاكرة المدرسة والطريق (السلوى للدراسات والنشر، 2007) تعود د.عايدة النجار محملة بالحنين إلى الزمن الماضي الجميل: عمّان الخمسينيات، لترسم لوحة للمكان بما فيه من معالم عمرانية وتاريخية وحضارية، وظواهر ثقافية وسياسية، تتعالق معها حياة الإنسان، وفي ربوعها تتشكل هويته.
تتذكر النجارُ الطفلةَ التي كانتها في أواسط الأربعينيات؛ تحمل حقيبتها الصغيرة المليئة بالأحلام لتلج باب مدرسة المأمونية في باب الزاهرة في القدس، قبل نكبة 1948، وفيها تتعلم أحرف الهجاء الأولى: راس روس، دار، دور .. تلك التجربة التي ظل لها حضورها المؤثر في الذاكرة، وعنها تكتب النجار: أحببت معلماتي وشعرت أنهن في منزلة أفراد العائلة. وقد تركن في نفسي شعوراً دائماً بالحنين للمدرسة، في ذلك الوطن الذي ظل في الوجدان، كما بنات الصف في مرحلة الطفولة . وظلت كذلك الكثير من الوجوه التي ألفتها النجار وأحبتها حاضرة بقوة في ذاكرتها، حتى وإن غابت الصور التذكارية لهذه الوجوه وأعدمت في بيت النجار العتيق جراء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والذي مزق البيت أشلاء، لكنه لم يقوَ على محو ذاكرة ما تزال شاهد عيان على جرائمه وممارساته الاستبدادية الظالمة.
لم تكن النجار ترى في المدرسة مكاناً جغرافياً حسْب، إذ ظلت المدرسة محبة وحنيناً لديها كما تقول، وظلت تمثل بالنسبة إليها المكان والناس والوطن والأحداث والذاكرة الفردية والجمعية.
بعد نزوحها من فلسطين مع عائلتها إثر النكبة لتستقر في الأردن، المكان الأقرب للوطن كما تصفه، التحقت النجار بمدرسة أروى بنت الحارث التي كانت تقع في شارع خرفان، وفيها أكملت دراستها الابتدائية، لتواصل بعدها مع رفيقات الصف والحلم إلى مدرسة الملكة زين الشرف الأولى في عمّان قبل أن تتوالد مثيلاتها في الخمسينيات، وفيها تكمل النجار المترك المرحلة الأعلى في التعليم قبل إنشاء الجامعة الأردنية مطلع الستينيات: عشت في مدرستي التي أحببت ووجدت فيها الأمان وأجمل أيام العمر: مرحلة الشباب المبكر والمراهقة. وكان لتلك السنوات أهمية لأنها شكلت جزءاً من شخصيتي وأحلامي وتطلعاتي وطموحاتي.
وتصف النجار الجانب المعماري الفني الذي بنيت وفقه مدرسة الملكة زين الشرف ، إذ أقيمت المدرسة من طابقين من حجر الطُّبز الذي أُحضر من قرية قباطيا في فلسطين، وكانت محاطة بالبساتين الخضراء التي التهمتها فيما بعد البيوت الحجرية التي أخذت تنتشر في المنطقة، كذلك بدأت معالم المدرسة نفسها بالتغير، إذ تميز البناء الجديد بالأقواس نصف الدائرية والمتشابكة التي شكلت السمة الأساسية للواجهة الحجرية الجميلة، كما أضيف للبناء المكون من طابقين طابق ثالث بالإضافة إلى طابق تسوية ضم غرف العلوم المنزلية، وحول التغيرات التي طالت المدرسة والمكان المحيط بها تقول النجار: أخذت البيوت الحجرية المحيطة بمدرسة زين تزداد، وانتشرت بشكل مرحب به، إذ أضفى على المكان بعداً مدينياً، بعد أن كانت معالمها ريفية زراعية موحشة لمن يقصدها وحده، وخوفاً من بعض الحيوانات البرية التي كانت تعيش هناك قبل أن يصبح البستان جزءاً من جبل عمان السكني العريق.
كانت مدرسة زين الشرف، محجّاً للطالبات من كل صوب، وعلى كل من هذه الطرق المؤدية للمدرسة تناثرت ذكريات الصبايا وقصصهن العذبة التي حملنها في وجدانهن بعد أن درجن في دروب الحياة العملية وشهدن تبدلات المكان وتغيرات الزمان. كانت الشوارع والطرقات كما تصفها النجار في ذلك الزمن ضيقة وغير معبّدة وبعضها طينية، وقد تقاطع بعضها مع الدوائر الحكومية ومخافر الشرطة والأسواق والمحال التجارية ودكاكين المؤن والأفران والمطاحن واستوديوهات التصوير الفوتوغرافي ومكاتب التاكسي التي أخذت مكان عربات الشركس التي كانت تجرها الخيول في الثلاثينيات والأربعينيات. وقد كانت هذه المعالم الحضارية مؤشراً مهماً على التغييرات التي طالت مدينة عمان وسرعة وازدهار التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها، وانتقال المجتمع من حياة البداوة والريف إلى حياة الحضارة والمدنية.
ومن خلال حديثها عن المدرسة، والطرق الموصلة إليها، تصف النجار عمّان ب مدينة الأدراج بلا منازع، وطبيعتها الطبوغرافية، حيث: الأدراج المتناثرة بين الجبال وبين وسط المدينة، كانت كثيرة، وكان الطلوع والهبوط عليها متعة للبنات . كانت إحدى سلاسل الجبال تربط شارع المهاجرين بجبل عمان، وأصعبها صعوداً لكثرة عدد الدرجات فيها، كذلك درج اللويبدة الطويل قرب معمل الثلج، ودرج منكو ودرج عصفور ودرج الزعامطة ودرج الكلحة .. وغيرها من الأدراج التي كانت تمثل شرياناً حياً تتدفق من خلاله حركة الناس بين جبال عمان وقلب المدينة: لم تنس البنات أبداً تلك الأدراج وبشكل خاص ذلك الدرج الطويل الذي يبدو واقفاً لا يتعب بينما كن يتعبن وهن يتسلقنه من شارع المهاجرين للوصول إلى مدرسة أروى بنت الحارث في جبل خرفان، وكانت الرحلة اليومية طلوعاً ونزولاً إجبارية لمن كان يسكن في رأس العين.
وتستذكر النجار كذلك نمط العلاقات الاجتماعية الذي كان سائداً في تلك الحقبة: العلاقة التي تجمع أفراد البيت الواحد، والحي الواحد، والمجتمع ككل، كذلك علاقة الرجل بالمرأة، التي تقول النجار عنها: أكثر بنات المدرسة كن يتخوفن من علاقاتهن مع الأولاد بسبب الخوف المكدس لديهن من الأهل والمجتمع، خاصة مع أولاد العائلة الذين يرافقون الأهالي لزيارة الأقارب لإبقاء صلة الرحم، أو أولاد الجيران الذين كانت الفرصة سانحة لإقامة علاقة معهم بحكم التواصل اليومي، والالتقاء في الطريق أو من خلال الشبابيك.
أما الجانب الثقافي، فقد شهد نهضة إيجابية عبر شخصيات أدت دوراً مهماً في الحركة الوطنية وتأثر فيها العديد من الشباب وطلاب المدارس، وشيد المثقفون أهم المؤسسات الثقافية ومنها: المنتدى العربي الذي أسسه مجموعة من القوميين العرب ، و نادي التعاون الثقافي الذي كان يتردد عليه الشباب المثقف من الاتجاه اليساري، كما ترددت عليه النساء أيضاً ومنهن: هيفاء شقير وهيفاء المجدوب.
وفي أواخر الخمسينيات استقطب نادي الأردن الذكور والإناث من الشباب معاً. كذلك برز النادي الأرثذوكسي و معهد النهضة العلمي وغيرها من الصروح الثقافية التي كانت تتواجد في عمّان وفي غيرها من المدن الأردنية مثل إربد والسلط.
وقد ساهم المناخ السياسي الوطني في تشجيع صدور العديد من الصحف والمجلات التي انخرطت بالكتابة فيها أقلام النساء إلى جانب أقلام الرجال، ولعل أبرزها، بحسب النجار، مجلة صوت الجيل التي أصدرتها مدرسة إربد الثانوية العام 1949، وضمت كتابات لمحمد أديب العامري، والمحامي شفيق رشيدات، ومصطفى وهبي التل، ورفعت الصليبي.. وكانت تركز على حقوق المرأة وتلفت إلى أهمية تفعيل دورها في المجتمع.
وتنهي النجار كتابها الذي يوثق لحياة جيل الخمسينيات الذي تأثر بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمستجدات السياسية بعد نكبة فلسطين في 1948، التي تداخلت مع تاريخ الأردن الحديث والمتغيرات في المنطقة العربية، بحفلة تخرجها ورفيقاتها من مدرسة الملكة زين الشرف، إذ توزعت كل منهن في أحدى دروب الحياة المختلفة، لكن ما بقي كما تقول النجار: أيام المدرسة، وبقيت أيام بنات عمان زمان حية في ذاكرة المدرسة والطريق والحياة. وتغير الزمان والمكان الطرق واستمرت حياة من بقي من الجيل العتيق ليتذكر. ولدت أجيال جديدة لتتعلم وتواصل المسيرة والمستقبل .
هيا صالح