تقديري شديد للمؤلفة د.عايدة النجار ، لأنها تذكرت جيلها وزميلاتها وصديقاتها بهذا الكتاب، وعن إعجابي بالكتاب وبذاكرة المدرسة لبنات عمّان في الأمس. أما الدليل على إعجابي بالكتاب فقراءتي له حتى نهايته في جلسة واحدة – لأنني أنا وغيري من الفتيان آنذاك – أبناء تلك المرحلة لنا ذاكرة للمدرسة والطريق أيضاً. إن لأبناء جيلي وبناته مع الكتاب علاقة شخصية تعيدنا الى تلك الايام الخوالي من العقدين الأول والثاني من النصف الثاني من القرن العشرين.
الوعي السياسي
كان الوعي السياسي عند تلاميذ المرحلة الثانوية وتلميذاتها في تلك الايام أعلى وأقوى من الوعي السياسي لتلاميذ وتلميذات المرحلة نفسها هذه الأيام. والوعي السياسي – في رأيي – هو أعلى مراحل الوعي عند الانسان. وبدونه يفقد الانسان البوصلة، ولا يعرف موقعه ومستقبله في هذا الكون، فحسب مانشيت جريدة الجهاد الصادرة في القدس نقرأ: ”مظاهرات عارمة تعم الأردن بقيادة الفتاة الباسلة عايدة النجار، استجابت لها مدن الضفتين”.
واستغرب كيف تحث الحكومات اليوم الطلبة على المشاركة النشطة في الانتخابات ثم تحاسبهم على نشاطهم السياسي العام في المدارس والجامعات. ان دلّ هذا على شيء فانما يدل على استمرار تمسك الابوية بسلطتها.
ومن قراءة الكتاب ندرك أن التلاميذ والتلميذات كانوا يتعلمون في المدرسة ويلعبون في البيت. أما اليوم فإن التلاميذ والتلميذات يلعبون في المدرسة ويتعلمون في البيت (بالواجبات المدرسية الثقيلة والدروس الخصوصية المكلفة حتى لتلاميذ وتلميذات المدارس الخاصة).
سور المدرسة
أشارت المؤلفة الى سور مدرسة البنات. ولذلك مغزى وهو وإن كانت مدارس البنات في الأمس مسّورة او ”محجبة” بالأسوار إلا ان مديراتها ومعلماتها وتلميذاتها كنّ داخلها وخارجها في الطريق سافرات.أما اليوم فقد أصبحت المدرسة سافرة والمديرات والمعلمات والتلميذات محجبات (او منقبات او موصوصات) . واستغل هذه المناسبة لأقول: أنا لست مع نزع الغطاء ولست مع فرضه.
أشارت المؤلفة وتحدثت كثيرا بحنين وشجنً عن فترة المراهقة وهي على حق في ذلك، فالمراهقة فترة خصبة ومتفجرة في حياة الانسان الحديث.، لكنها ليست مرحلة طبيعية أصلاً في حياته كما يرى بعض العلماء والمفكرين، بل هي حالة ثقافية من صنع الانسان المعاصر، أو اختراع حديث لم يعرف الا بعد أن نشر جوته الالماني كتابه الأول ”أحزان ويرذر سنة (1770 ،ْموُّْىط نُ ٌَُُّّْْس موش) وفي الوقت الذي اخترع فيه جيمس واط الآلة البخارية، وأصدر آدم سميث فيه كتابه ثروة الأمم (ََُّىُّفخ موُّ نُ وٌُّفمط موش) لم تكن المراهقة معروفة في مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية فالطفل كان يصبح راشداً بمجرد اشتراكه في او اجتيازه للطقوس الخاصة بذلك. كان يتوقع منه ومنذ تلك اللحظة التخلي عن السلوك الطفولي بعد أن (عمّد) او دخل في عالم الراشدين.
المراهقة مرحلة جاءت مع المدرسة النظامية التي نجمت عن الثورة الصناعية: وهي مرحلة يحتدم فيها الصراع بين إمكانات الفرد وما يتوقع منه أو يسمح له به. إنها فترة الغموض او الولادة الثانية التي لا ينفك الراشدون يقولون للمراهق فيها: تصرف حسب سنك أي حسب عمرك الزمني. ابتعد عن طريق الراشدين أي تصرف حسب عمرك الثقافي. ولذلك يظل الفتى والشاب في نظر الراشدين والمعلمين والمعلمات والأساتذة والأستاذات مراهقاً ما دام على مقاعد الدراسة حتى وإن كان في مرحلة الماجستير او الدكتوراه: أنت تلميذ او طالب فأنت إذن صغير او قاصر او جاهل مهما كان عمرك الزمني او عمرك الثقافي.
لم تكن مرحلة مدرسة زين الشرف الثانوية أعلى مرحلة في التعليم للبنات في الأردن قبل إنشاء الجامعة الأردنية (ص16) بل كانت دار المعلمات في رام الله ودار المعلمين في عمّان قبل إنشاء الجامعة كما جاء في الكتاب في مكان آخر.
السباحة
لم تكن توجد في تلك الفترة مدارس مختلطة حكومية او خاصة، وإن تمكنت فتيات من السباحة المختلطة آنذاك كما ذكرت المؤلفة (ص59).أما اليوم فتوجد مدارس خاصة مختلطة في جميع المراحل، واختلاط في مدارس الحكومة الابتدائية الدنيا. وتوجد مسابح مختلطة أيضاً على الرغم من محاربة الأصوليين لذلك.
كان تعليم الاقتصاد او التدبير المنزلي زمان ميزة نوعية لمدارس البنات. أما اليوم فقد تراجعت هذه الميزة مع أنها صارت ملحة أكثر من قبل بعد أن تحولت الأسرة من منتجة آنذاك الى مستهلكة اليوم. لا بد من العودة الى هذا التعليم بقوة لاسترجاع الأسرة المنتجة وللبنين والبنات على السواء بعدما خرجت المرأة بقوة الى العمل خارج البيت وصارت الأسرة تقوم على المشاركة. كما أن المدرسة والمجتمع بحاجة الى تعليم الفنون بأشكالها كالرسم والموسيقى والتمثيل والغناء والرقص… ولكلا الجنسين. (وسوف لا يحتجون إذا قلنا تعليم الدبكة).
كان معظم التلاميذ والتلميذات يصلون مدارسهم مشياً على الأقدام وحتى بين القرى والمدن. أما اليوم فقلما يصل واحد منهما الى مدرسته مشياً على الأقدام.
كان التعليم حتى سنة 1964 مقصوراً على المرحلة الابتدائية. ولذلك كان عدد المدارس والتلاميذ محدودا .ثم حدثت الطفرة في التعليم بعد سن قانون التربية والتعليم رقم 6 لسنة 1964 الذي مد التعليم الإلزامي إلى نهاية المرحلة المتوسطة، وألزم الحكومة بتوسيع التعليم في طول البلاد وعرضها ، حتى بلغ عدد الأطفال الملتحقين بالمدارس رقماً قياسياً (نحو ثلث السكان).
حب الأطفال والتلاميذ والتلميذات للمادة الدراسية مستمد من حب المعلمة او المعلم. وكذلك كراهيتهما. إن الحب والكراهية ينتقلان من المعلم او المعلمة الى مادته. ولذلك كانت محبة التلميذات لدروس المعلمة سعاد ابو الهدي نابعة من محبتهن لها.
التلقين
كان التعليم يتم – عموماً – بالتلقين وهو انعكاس للأبوية. أما في عالم اليوم المعقد والمتشابك فالحديث كثير عن القراءة الناقدة، والاستماع النشط، والتفكير الناقد، والابداع… نسمع جعجعة ولا نرى طحناً بسبب قوة استمرار الأبوية والخوف من المغامرة.
كان ضرب التلاميذ مسموحاً به او مقبولاً اجتماعياً في مدارس ذلك الزمان، وكذلك إهانتهم. وكان شعار كثير من الأهلين وبخاصة في القرى تعبيراً عن ذلك بقولهم للمعلم: لك اللحم ولنا العظم. أما اليوم فالضرب محرم تربوياً وإنسانياً وذلك صحيح.وكل مدير او مديرة او معلم او معلمة يلجأ إليه عاجز عن القيادة.
كان الضرب نتاج الادارة الأبوية القائمة على الرهبة والخوف والطاعة كما تفيد المؤلفة أما الادارة الديموقراطية والإنسانية فكانت غير معروفة.
وصم أو إدانة التلاميذ والتلميذات بالأوصاف السلبية شائعاً ومقبولاً. وكان لذلك أثر مدمر على تحصيلهم العام والخاص وعلى رؤيتهم لأنفسهم ولمستقبلهم. وربما تسبب كثيراً في الرسوب والتسرب . وأدعو الوالدين الى رفض ذلك والى إقامة الدعوى ضد كل معلم او معلمة يصف طفلهما سلباً مهما كانت الأسباب.
كانت نظرية او معتقدات التعلّم السائدة في الأمس أن الذكاء محدود ولا يمكن زيادته، وأن الطفل مسؤول عن تحصيله. ولذلك كان يثاب او يعاقب أو يرسب أو يتسرب.ويبدو أن هذه النظرية او معتقدات التعلّم هذه لا تزال قائمة الى اليوم على الرغم من زيفها، بعد ما ثبت أن الذكاء ينمو بالبيئة الثقافية والتعليمية الغنية، وأن جملة العوامل الاقتصادية والاجتماعية … في الأسرة والعوامل المدرسية تؤثر سلباً او إيجاباً في التحصيل، وأن الطفل / التلميذ قادر على تعلّم أي شيء اذا علمه بصورة صحيحة.
إن نظرية التعليم او المعتقدات المتعلقة به هي التي تطبع سلوك المعلم والمعلمة والادارة التربوية بطابعها، فالنظرية الأولى تستهل مهمة المعلم بوضع المسؤولية عن التعلم على المتعلّم ولكنها تجعل مهمة المتعلم أصعب. أما النظرية الثانية فتجعل مهمة المعلم صعبة، لأنها تضع المسؤولية عن التعلّم عليه، لكنها تجعل التعّلم أسهل من هنا يجب أن يبدأ اصلاح التعليم او تطويره او إليه يجب ان ينتهي.
امتحان المترك
تصف المؤلفة امتحان المترك (ص32) بالمخيف وهو كذلك الى اليوم وإن تغير اسمه، لأنه لا يوزع المتقدمين اليه الى ناجح وراسب فقط، بل يقرر المصير او المستقبل أيضاً. وقد زادت رهبة او إرهاب هذا الامتحان اليوم لأن عُشر علامة يصنع فرقاً مصيرياً.
ان طبيعة الامتحان هي التي تقرر السلوك الاداري والتعليمي في المدرسة. وقد آن الأوان لاستبدال الامتحان العام بأشكال آخرى من التقييم بقصد التصحيح أو التقويم، وإلا فما معنى جلوس التلميذ منذ الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية المرحلة الثانوية ولنحو ثلاثة آلاف امتحان مدرسي ترفع بها من صف الى صف وتمت تهنئة والديه على ذلك، ثم يرسب في امتحان من طلقة واحدة؟ كانت المدرسة في الأمس صغيرة نسبياً كما يستفاد من كتاب المؤلفة، فقلما كان يصل عدد التلميذات أو التلاميذ في أكبر مدرسة الى اربعمائة. ولذلك كانت الادارة والمعلمات والمعلمين يعوفون جميع التلاميذ. أما اليوم فقد تضخمت المدارس وصار عدد تلاميذها او تلميذاتها بالألف أو الألفين. ولذلك زادت مشكلات النظام نتيجة احساس التلاميذ والتلميذات بالضياع وسط الزحام.
الانشطة والرحلات
كانت الأنشطة والرحلات والمسابقات والمباريات… المدرسية في الأمس بارزة وأفضل مما هي عليه اليوم. وللعلم فأن الأنشطة لا التعليم الصفي هي التي تصقل شخصية المتعلم وتحول المعلومات الى معرفة وكان النهار المدرسي الطويل يساعد على ذلك. أما اليوم فقد غابت الأنشطة كثيراً ومنع النهار المدرسي القصير والأسبوع المدرسي القصير المدرسة من مزاولة تلك الأنشطة.
وكان يوجد كثير من المدارس المجمعة في تلك الفترة (عدة صفوف في غرفة واحدة) والمعلم والمدير شخص واحد. أما اليوم فلا توجد مثل هذه المدارس. كان التلاميذ يعلمون بعضهم بعضاً في المدارس المجمعة (تعليم الأقران). إن مشكلة نقص المعلمات والمعلمين في مدارس وزارة التربية والتعليم يمكن حلها بهذه الطريقة الجيدة.
المدرسة الموازية في ذلك الزمان هي السينما والاذاعة -إجمالاً- وكان الجيل هو جيل الكلمة المطبوعة .
(Print Generation) أما اليوم فقد اتسعت هذه المدرسة وتغلبت على المدرسة النظامية بالتلفزيون والفيديو والكمبيوتر والانترنت. ولذلك يلتحق بها التلاميذ أكثر مما يلتحقون بالمدرسة النظامية لأنها تجمع بين التعليم والترويح (Edutainment). كما صار أطفال اليوم الرقميينَُىُّفْمَما ٌفُّىهى) ) بها أذكى بكثير من أطفال الأمس محدودي المصادر .
المهنة
مهنة التعليم في الأمس في الطليعة وبخاصة بالنسبة للفتيات. وكان لها مقام لأنه لم يكن لها منافس سوى مهنة الطب والهندسة المحدودتين في بعض المدن.أما اليوم فقد صارت مهنة التعليم في وسط الوسط بعد تطور المجتمع وتعدد المهن وتفاوت الدخول منها. وكانت المعلمة والمعلم يحصلان على احترام التلميذات والتلاميذ بقوتهما في المادة. أما اليوم فقد تراجع الاحترام بسبب تقدم مهن كثيرة على مهنة التعليم وضعف المعلمات والمعلمين في موادهم على الرغم من ارتفاع مستويات تحصيلهم شكلياً (الجامعي) .لعل تراجع مستوى التعليم ناجم أيضاً عن إغلاق دور المعلمين والمعلمات المحترفة، وإعدادهم اليوم على الطريقة الامريكية الفاشلة القائمة على التسوق (تسوق ساعات معتمدة تجعل المتسوق يحصل على الدبلوم او التأهيل لشغل وظيفة معلم دون صيروته معلماً/معلمة).
وكان تقييم المعلمات والمعلمين يتم عن طريق المفتشين المركزيين. وكان لهؤلاء رهبة وسطوة هما انعكاس للنظام الأبوي السائد. وقد تم الانتقال من التفتيش الى الاشراف ثم التوجيه لتخفيف الرهبة والسطوة.
لا يعود نفور البنات من مادة الرياضيات والعلوم الى نقص عقلي عندهن، بل لطبيعة التوقعات الاجتماعية السائدة منهن التي كانت ترى ان هذه المواد صعبة على الفتاة وعليه لا بد من تغيير هذه التوقعات لتغير البنات استجاباتها التعلّمية.
كانت بنات الأمس يلبسن الملابس الرياضية الخاصة بالألعاب دون حرج او هرج. أما اليوم فقد امتد الحجاب الى هذه الملابس او الرياضات (والممرضات أيضاً) أما الغش في الامتحان فهو ظاهرة مدرسية ناجمة عن طبيعة الامتحان القائم على المعلومات وتقرير المصير، وقد أضيفت اليه ظاهرة الانتحال اليوم. لكن الغش في الامتحان لا يعني كما يقال أنّ من يغش فيه يغش بعد ذلك في كل شيء. تلك ثقافة خاصة بالامتحان أو المدرسة وإلا لكان العالم مملوءاً بالغش في كل أمر وفي كل وقت وعلى كل مستوى.
الحب والهوى
كان الحب في الأمس بين البنين والبنات عذرياً وعن بعد إجمالاً. ولذلك كان صادقاً ونبيلاً . أما اليوم فالحب يتم عن قرب وربما عن قرب شديد بالاختلاط والمواصلات والسيارة الخاصة والعامة والتلفون الخلوي… التي تسهلّه وتشجع عليه. ومع ان الحب ضروري لحياة صحية وسعيدة الا أنه اليوم عابر أو استهلاكي – إجمالاً- أي قلما يثبت بعد الخطبة الرسمية بين المحبين.
وفي الختام نقول:إن الحنين الى الماضي جزء من الطبيعة الإنسانية عندما يتقدم العمر بالإنسان لأن مساحة مستقبله تتقلص بينما الشوق إلى المستقبل عند الطفل قوي لأن المستقبل مفتوح أمامه ولكن الماضي لا يعود ولا يستعاد كما قال أبو العلاء المعرّي:
أمس الذي مرّ علي قربه: يعجز أهل الأرض عن رده
أما المستقبل فصار يأتي سريعاً اليوم كما يقول أحد المستقبليين.
حسني عايش