بين عبد الرحمن منيف، وعايدة النجار اكثر من عــقد ووشائج، فالأول أرخّ لعمان وسيلها وسوقها ومسجدها الحسيني، حين استعاد ذكرياته وهو فتى يتيم الاب بعد نصف قرن فاعتمد على رؤية ذاتية، لروائي عرف المدينة في الاربعينيات فأسماها سيرة مدينة ”عمان في الاربعينيات” وكذلك فعلت د. عايدة النجار، فأرخت لعمان في الخسمينيات في كتابها (بنات عمان ايام زمان).
ولعل بعض الكتب يسوقها الغلاف الاخير، فهو عادة ما يكون ممهورا بتوقيع شاعر أو روائي، أو ناقد قال فيه ما قال تقريضا واطراء.
وتكاد هذه الظاهرة تصبح من (لزوم الصنعة) فلا يخلو كتاب من ختم او اجازة من ناقد الا قلة ومنها كتاب عايدة النجار – بنات عمان ايام زمان في طبعته الثانية.
بنات عمان من لحم ودم
ارادت عايدة ان يكون كتابها من لحم ودم، فقدمته كما هو باعتباره ذاكرة جيل شاب عاش ايام زمان الجميلة في الخمسينيات من القرن الماضي وكانت الكاتبة احد شهوده.
ويسجل لها تواضعها بقولها إن (بنات عمان) هن بطل تلك الحقبة، والحق ان لا بطل سواها فقد كان كتابها وثبة جوانية فيها الجرأة والبوح واستحضار المشاعر رغم مضي زمن على حدوثها، فأبدعت في رسم عمان الخمسينيات وجميلاتها بالصورة والكلمة.
وبينما كانت بنات عمان ابطال عايدة النجار وذكرياتها الا ان عبد الرحمن منيف يبرز جدته في سيرة عمان كشخصية محورية لها حكاياتها ويختم بها السيرة فبعد دفنها (خرج الحفيد من المقبرة الى دوي المدينة، خرج الى بغداد القاسية والحنونة، ليبدأ مشوارا جديدا في هذه الحياة!).
تستعيد عايدة ذكرياتها في (مدرسة المأمونية) بفلسطين قبل عام 1948 حيث تعلمت فك الحرف ولعل تلك المرحلة يصح وصفها اصطلاحا (بحقبة راس روس، دار دور) كاشارة الى منهج خليل السكاكيني تلك الايام.
طاق طاق طاقية
وتنتقل لتوثق ذاكرة المدرسة في عمان (بمدرسة البنات الابتدائية) والتي اصبحت تسمى مدرسة اروى بنت الحارث، حيث اكملت تعليمها الابتدائي في هذا البناء التراثي المزخرف بنقوش شرقية وارضية فسيفسائية وابواب خشبية وزجاج ملون للنوافذ ذات الاقواس وتستذكر عايدة اول معلماتها (فاليريا شعبان) معلمة الرسم، وتعدد عددا من الالعاب الشعبية والتي كانت تلعبها مع بنات الحارة بعد المدرسة أيام زمان ومنها لعبة”نط الحبل” وكذلك لعبة الحجلة (الاكس) وتتم بدفع حجر مسطح بالقدم من مربع الى اخر وصولا الى المنعطف والعودة للجهة الاخرى لاجتياز المربعات جميعها..
وتستذكر كذلك لعبة (طاق طاقية) (ورن رن يا جرس حول واركب ع الفرس) والعاب الاولاد ومنها (النط) فوق الظهور بشكل متتال ويصاحبها القول ”اولا يا اسكندراني ثانيك يا غزلاني).
تعيدنا عايدة الى قاعة سينما البتراء والعمانيين الباحثين عن عرائس جميلات من الفوج الاول للخريجات من مدرسة اروى بنت الحارث 1950 – 1951 ويا ليتها وثقت اسماء جميع الخريجات ودفعت بالاسماء الى امانة عمان لنكرم الرائدات باطلاق اسمائهن على عدد من الشوارع.
ظاهرة الاتوغراف
وشاعت لغاية السبعينات من القرن الماضي ظاهرة (ادب الاوتوغراف) وهو عبارة عن دفتر صغير انيق له غلاف كرتوني مقوى بألوان مختلفة وداخله ملون كقوس قزح وتستذكره عايدة حين (بدا كظاهرة محببة لدى اكثر البنات وخاصة قبل انتهاء السنة الدراسية، في موعد (الوداع) والفراق بين الزميلات والصديقات.
وتذكر ان بعض زميلاتها حافظت على الاوتوغراف لأكثر من خمسين سنة لاستعادة ما كتب بين السطور ايام المدرسة في مرحلة هي الاجمل (كما تصفها عايدة).
وتنقل من دفتر (فردوس زعيتر) ويعود لعام 1951 ما كتبته المعلمة فاطمة ملحس (ما احوجنا الى الذين يقرأون ويتأملون) واقتباسها من جبران ”ليست الحياة بسطحيتها، بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم”.
وهي عبارة جميلة التي سجلتها سميرة البسطامي في عام 1953 بقولها ”القي بأكفان الماضي في زاوية النسيان ودعي احزان الماضي للماضي، الا تغرب الشمس كل يوم وتعود للاشراق!”.
أم محمد تقرأ البخت
ولفنجان القهوة وقراءة البخت حضورهما في حياة (بنات عمان آيام زمان) فقد كانت صبايا الخمسينات كما هن صبايا اليوم يتسللن الى بيت العرافة (ام محمد) قرب الحاووز في جبل عمان / الدوار الأول لتقرأ لهن الطالع ويعدن سعيدات لبيوتهن بعد ان تخبرهن بأن اجتماعاً كبيراً (سيتم قريباً في بيتكم هو والله أعلم حفل خطبته أو عرس) وحرف (ع) او (ح) قد يكون اول حرف من اسم العريس.
اما ذاكرة حورية الزعيم – وهي احدى الرائدات التي وردت اسماؤهن في كتاب عايدة، فتستحق التأمل، ففي بيئة صعبة جنوب الاردن (معان) استطاعت هذه الشابة 16 عاماً ان تترك بصماتها التربوية في الجنوب وعمان والكرك ومادبا وانقل عن حورية: ”ركبت القطار انا ووالدتي من عمان الساعة السادسة صباحاً، فوصلنا معان الساعة الحادية عشرة ليلاً، وفي صباح اليوم الثاني ذهبت الى المدرسة، فاذا هي عبارة عن ثلاث غرف من الطين وامامها باحة، وكانت المدرسة فارغة تماماً.. كتبت لمتصرف معان اعلمه بوصولي، فبادر لافتتاح المدرسة واعلان بدء التسجيل..)..
اول انثى تقود سيارة في عمان
وتقول عايدة (ان ابرز المعلمات التي ظلت في ذاكرة المدرسة هي سعاد ابو الهدى، فقد كان لها خصوصية وتنقل عن رفيقتها في الذكريات (بلقيس الروسان) ان سعاد أمل سائقة سيارة في الاردن من الاناث ولها فضل في الموضة، فبسبب ارتحالها مع والدها واناقة ذوقها فقد كان لها الفضل (في نقل خطوط الموضة الحديثة للبنات اللواتي كن يقلدنها) ص23 وتتعدد الامكنة والشوارع الطرقات في كتاب (بنات عمان) ومنها سوق البخارية الحالي في وسط عمان حيث كان يجذب الصغيرات للبحث عن كلف الخياطة للامهات او دبابيس الشعر، وتستعيد المؤلفة زمنا لم تكن تعرض فيه السينما افلاما مخلة بالاداب والاخلاق وتذكرنا بكلمة (اللوج) وهي الدرجة الاولى وتعدد ابرز افلام تلك المرحلة وابطالها وتقول ان التذاكر كانت تتراوح بين 5-7 قروش.
وربما يكون زمن عايدة سينمائيا على الاقل افضل من زماننا، فهي تذكر بان الطبعة الوطنية لصاحبها محمد نوري السمان كانت تصدر نشرة (مجانية) في عام 1953 للتعريف بالافلام التي ستعرض في دور السينما كما تنشر تعليقات ونقدا عن الافلام والممثلين.
صبايا في انتظار روزا
ولم يغب الادب والصحافة عن ذاكرة عايدة النجار، فتذكر ان طلبة وطالبات تلك المرحلة تواصلوا مع الحركة الثقافية العربية والعالمية فقرءوا (روزاليوسف) المصرية، وكانت الطالبات ينتظرنها كل يوم اربعاء، لمواصلة قراءة قصص احسان عبدالقدوس الرومانسية.
حتى ان عايدة تعترف بانها احدى مدمنات الكاتب الكبير وقرأت له (في بيتنا رجل) و(النظارة السوداء) و(الوسادة الخالية) (ولا انام) (وأنا حرة) لان القصص العاطفية كانت تشدها كما السياسية مثل (النظارة السوداء).
ويبدو ان تأثير مثل هذه القصص كان كبيرا على جيل الخمسينيات كما تستذكر رفيقتها رغدة منكو حين كان البائع يبادرها القول (وصلت روزا) في اشارة الى روز اليوسف.
وكما أثرت روز اليوسف في جيل الحمسينات والستينات في مصر، فقد أثرت في جيل الخمسينات ذكورا واناثا في الاردن فعبرها كما تقول عايدة تمكنا من التعرف على يوسف ادريس وقصصه، وقرأنا ليوسف السباعي ونجيب محفوظ.
صحف الخمسينيات
وتوثق عايدة للصحف الاردنية والمطبوعات التي ظهرت في تلك المرحلة مشيدة بالجو الثقافي العام والذي يتسم بالتفاعل والحراك ما سهل على الطلبة الكتابة فيها في زاوية الطلبة ،كما في جريدة الحوادث الاسبوعية 1952 ? 1954 للصحافي مسلم بسيسو.
وتقول بان عدد الصحف الجديدة التي ظهرت في عمان في الخسمينيات بلغ 28 صحيفة توزعت ما بين جريدة ومجلة ومن بينها تلك التي تعبر عن وجهة نظر الاحزاب السياسية ومنها الراية والكفاح الاسلامي والجماهير والوطن والجبهة والهدف والنضال.
القلم الجاف ..حظوة
ولا تنسى عايدة النجار التفاصيل او تفاصيل التفاصيل فتذكر لنا بان بنات المدرسة في تلك الايام كن يكتبن بقلم الرصاص او بالريشة والحبر، وتعد محظوظة من تمتلك قلم حبر جافا من نوع (باركر او فابر او بليكان) وفي اشارة لطيفة تقول ان تلك الاقلام كانت لاباء البنات او اخوتهن يستقرضنها ليفاخرن بها امام الصديقات.
ومن ذكريات الجدات مطالعاتهن لامهات الكتب في تلك الحقبة وتذكر عايدة منها (كتاب جين ايير) Jane Eyre للكاتبة شارلوت برونتي و(مرتفعات وذرنغ) ،وجدات زمان اجمعن كما تقول عايدة على انهن قرأن كتاب (ذهب مع الريح) gone with the wind وحضرن الفيلم وما زالت صورة (سكارليت) البطلة في مخيلتهن.
جدات يستذكرن رقص زمان
وتستعيد الذاكرة الجمعية للجدات ،صورة الطالبات أو صورتهن هن ،وهن يسترجعن الرقصات الهنجارية الشعبية في حلقات دائرية ويحطن بمن تتواجد في وسط الدائرة.. ومنهن الشقراء احسان الدجاني حيث تنبعث الموسيقى من اسطوانة تدار على (الفونوغراف) الموضوع في الساحة قرب حلقات الرقص وتحرص عليه المعلمة ماجدة المفتي فلا تسمح لأحد بالعبث به لأنه كان يدار باليد.
وفي فصل الشابات الصغيرات (المراهقات) جرأة في البوح والكشف، حين تستعرض النجار في كتابها ما يسمى بسيكولوجية الانثى المراهقة بصورة ذكية ولماحة، فبعد ان تعالج مدلول الكلمة وتأثيرها على الطالبات (كحالة عدم نضوج) تنتقل الى سلوكات جيل الخمسينيات حيث عدد من الطالبات يظهرن جمال الخصر والصدر بشد (المريول).
عايدة النجار وثقّت الجانب الانثوي من المدينة ،بجهد فردي تستحق عليه الثناء، فاستعادت ملامح أمكنة وأزمنة اعتمادا على ذاكرتها وذاكرة صديقاتها.. وكما يقول عبد الرحمن منيف ”فالذاكرة مهما حاول الانسان الدقة والامانة خداعّة ،شديدة المكر، لانها تقول الاشياء التي تعنيها”.
ولكنها اعتمدت على الصورة، ما يجعل كتابها مرجعا للباحث سواء في علم الاجتماع او تطور المدن.
جميل حمد