المحطة الأولى – بلكونة بيتي في أم أذينة تطل على عمان الجميلة وعلى أجمل منظر في عمان من الجهة الشرقية من بعيد. من الطابق الرابع العالي أرى عمان الجديدة التي أخذت محل القديمة أيام زمان في الخمسينيات من القرن الماضي. أرى المدينة تتمدد إلى طريق المطار ومرج الحمام، وأرى من بعيد دوار الشرق الأوسط، خصوصا ليلا، حيت يتلألأ كعقد ذهبي مرصع بالألماس على جيد عروس جميلة.


أعود بنظري للأقرب: عمارتان جديدتان تحت الإنشاء: بوابة الأردن، وقد قزمت الجار ، فندق عمرة الذي كان يفاخر بطوله. وعندما أغير اتجاه نظري إلى اليسار أرى عمارة كابيتال الزجاجية الزرقاء، وقد ارتفعت وهيمنت على كل ما حولها من دور قديمة وجديدة.

يصعب على النظر أن يتوقف، يجذبه عن بعد فندق رويال عند الدوار الثالث، يطل علي من مكان بعيد ليذكرني بخصوصية المكان في ذاكرتي.. فهو جار لموقع وزارة الإعلام التي عملت فيها حينئذ.
كنت أمتطي الدرج وطرطقة الكعب العالي تنبه أبو محمد أنني وصلت إلى مكتبي أصبح عليه قبل جاري الزميل إبراهيم السمان، ثم أذهب لأصبح على أستاذنا سليمان الموسى الذي كانت طلته تؤنس من يدخل هذا المبنى الذي كان يجاور بيت مأمون طوقان قبل أن يهدم هو الآخر.


والأهم أن تلك الحارة كانت تحمل عنواني، حيث كان بيتنا هناك بناه الأهل في أواخر الخمسينيات مقابل فندق الأردن، الأهم في الستينيات، لنجاور آل الحاج حسن، ولتتبادل أمي أم عارف أطباق الطعام اللذيذ مع أم خالد لخلق علاقات حميمة بين الأهل والأصدقاء. وكانت السفارة المصرية تسكن بيت المهندس عارف النجار الجميل لعقود عدة قبل أن يهدم العام 2006 ليبنى مكانه عمارة عصرية من تسع طوابق زجاجية. وكان الشارع يعرف باسم عارف النجار قبل أن يسمى باسم آخر غريب عن الحارة بعد عملية التسمية والترقيم. أعود بنظري للأقرب إلى عنواني الحالي الذي تغير إلى أم أذينة ، فأرى فندق شارتون المميز، وجاره فندق فورسيزنس، بعد أن تكاثرت الفنادق في عمان مترامية الأطراف، الممزوجة بالعتيق والجديد، ولتظل لها رائحة فيها حنين للماضي والمستقبل حلم المخططين الجدد.

المحطة الثانية
بلكونة بيتي في أم أذينة تطل على بيوت جميلة بساتينها متعة للناظر وللذوق العالي في الربيع وكل فصول السنة. في الجوار كان بيت الأمير رعد قبل الرحيل مؤخرا منه، تحيط به غابة من أشجار الصنوبر العالية التي كانت تضفي عليه غموضا لمن يمر من قربه قبل أن يزال وتصبح الأرض بانتظار مول عصري جديد.. والأقرب إلى بيتي بيت أم تحسين الصباغ المحاط ببستان أنيق مفرح يعتني به البستنجي علي المصري. بالإضافة لاعتنائه بملعب التنس الذي بني ليس للزينة، بل لاستعماله من شبان البيت النشطين الذين يهتمون بالصحة والحياة الجيدة.


ورغم ارتفاع أسعار الأراضي، فقط ظلت قطعة الأرض لاستعمال أهل البيت، وحمتنا نحن الجيران من إنشاء عمارة عالية تغطي المناظر الجميلة التي أتمتع بها من البلكونة العالية. يحمي الجيران كلب لا أعرف اسمه، لكنني أسمعه يهوهه أثناء النهار، ولا أشكو منه، لأنه ليس مزعجا. وأرى أنه يبعث بعض الحركة والحياة في الحي السكني الهادئ. وقد سد الفراغ الذي تركه ديك الصباح الذي كنت أسمعه يحيي الناس على الفلاح قبل أن تصبح المنطقة أكثر مدنية ويتخلص أهله منه. أصبح كلب الجيران صديقي، وأسميته كوكي ، ربما تيمنا بالديك الذي استفقدته. صداقة الكلب أتت من مبادرة منه، إذ أخذ يهوهه عندما يراني أقف على البلكونة لسقاية الأزهار، أو للنظر إلى عمان والتمتع بجمالها وبما يجري من جديد عليها. وتنبهت ل حركشته ، واستجبت له، وأصبحت أحييه وأناديه وأسعده، وهو يعبر عن ذلك بتحريك ذيله إلى أعلى.

المحطة الثالثة
بدأت هوهوة كوكي غريبة قبل أسبوع، إلا أنني أهملته. غير أن حركة مزعجة أخذت تصدر من المتنزه الجميل القريب جدا مني ومن البيوت المحيطة به، وقد ميز المنطقة بالخضرة والهواء النقي وملعب التنس العام ومراجيح الأطفال. ازدادت الضوضاء وصوت تحميل المراجيح والكراسي الخشبية المتناثرة في المتنزه في اليوم الثاني، وازدادت هوهوة الكلب.


في اليوم الثالث، رأيت سيارة كبيرة تحمل حديدا ودرابزينا كان يسيج المنتزه، وزاد صوت كوكي منبها لشيء لا أعرفه، وكأنه غضب لأنني نهرت عليه أن اصمت، لقد أزعجتني . وفي اليوم الرابع أخبرني إبراهيم سلامة، حارس العمارة، أن المنتزه في طريقه للزوال. كان الكلب صديق الحارة حساسا بالخطر الذي لم نعرفه نحن جيران الشجر والهواء.


في اليوم الخامس، شعرت فعلا أن شيئا ما تغير عندما كانت الضوضاء أعلى وهي تحمل أعمدة الكهرباء الطويلة التي كانت تنشر النور والطمأنينة ليلا. غضبت لأنني سأفتقد هذا الفراغ الجميل الذي كان يبعث السعادة في النفس.

زاد غضبي في اليوم السادس، وقد زاد غضب الكلب أكثر، وصوت مناشير مزعجة تهجم على عدد من الأشجار تقصها من الجذور، ولم يأت الدور لشجر الصنوبر الذي آمل وصديقي الكلب أنها ستبقى لتؤنس الحارة بخضرتها قبل أن تبنى على الأرض عمارة طويلة القامة جديدة. سأفتقد من على البلكونة نور المكان ليلا، وخضرته نهارا، وحركة الناس فيه عصرا، وصوت الأطفال وهم يلعبون، وصوت الكلب الحساس وهو يرحب بهم. ولننتظر من هو الجار الجديد في عمان شديدة التغير في زمن شديد السرعة.

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment