الجرح الأول
أنظر إلى ظفر إصبع من أصابع قدمي اليسرى، إصبع مخرمش من بقايا ظفر أصيب بجرح عتيق عتيق.. وأتذكر سيرته بفرح وليس حزن. كان من جراء شقاوتي وأنا طفلة في بيت كان لنا في لفتا في أكناف القدس. بيت جميل له درج حجري أبيض ودرابزين يوصلك لباب الدار سالما. باب الدار من حديد ثقيل صنع في مدرسة شنلر الصناعية القريبة من الموقع. في وسط الباب شباك على شكل قبة وفيها أعمدة بالطول والعرض. تتدلى على قبة الباب وردة حمراء نفنوف غزيرة الإنتاج في الربيع بعد رحلة أوصلتها من منبتها في أسفل الدرج وهي تتشعبط على الدرابزين، لتسكنه ويستقر رأسها المرفوع إلى أعلى لتزين الباب الحديدي، مدخل البيت.
بقايا الجرح لم تذكرني بالألم أو الدم الذي سال وأنا أحاول إقفال الباب ليصبح بيتا لي ألعب فيه بيت وبيوت مع شقشقاتي في سن الطفولة المبكرة تحت الوردة الحمراء. ولم تذكرني بالبكاء بصوت عال وقد أفزع أمي في المطبخ، وأخواتي في غرف النوم أو الجلوس، وأخواتي اللواتي كن بجانبي يلعبن معي. أنظر إلى الندبة بسعادة وكأنها هدية للذكرى قدمتها أخواتي عريفة ورفقة اللتان قامتا بعملية الإسعاف ليظل مكان الألم الجميل علامة حب مضى في بيت كان لنا قبل النكبة وكان فيه أهل رحلوا عنه ومن ثم رحل بعضهم للسماء بعد الرحيل.
البيت الذي لعبت فيه تحت الوردة الحمراء، كان دافئا فيه الأمان ل بنتي الصغيرة التي صنعتها بنفسي من أدوات بيتية لتصبح لعبة شرايط تخيلتها من لحم ودم أحكي معها وتحكي معي. جسدها من خشبة خيزران وكذلك يديها وقد كسوتها بقماش أبيض من بواقي قطع قماش البفت الأبيض الذي سرقته من درج الكراكيب الخاص بأمي. صنعت وجهها من غطاء مطربان تطلي فارغ مدور أخذته من المطبخ، حشوته بلفافة من القماش، غطيتها بالقماش الأبيض وخيطتها مع الجسم لتصبح وكأن لها أكتاف ورقبة. أما الشعر فقد قصصته من شعر الخروف الجاعد الأبيض المفروش فوق البساط الأحمر والأسود تحت الدوشك على البرندة الكبيرة التي يفصلها باب الحديد أخيطه ليصبح جميلا.
كنت أمشط الشعر النظيف في ظفيرتين أربطهما بشبر كما شعري ذو الجديلتين الغزيرتين. ولأن شعرها أصفر، ووجهها أبيض، كنت أكمل الصورة للبنت الجميلة، برسم عيون زرقاء كبيرة لتكتمل الهيئة. ولأنها بنتي التي أحبها، كنت أبحث عن بقايا الأقمشة الزاهية لأخيط لها الفساتين بالإبرة والخيط وبموديلات مختلفة لتصبح فساتينها أجمل الفساتين، لأنها حبيبتي المدللة في بيتها تحت الوردة الحمراء. بين الفساتين خيطت لها فستان عرس أبيض من قطعة حرير وجدتها بين بواقي الأقمشة في جارور الكراكيب، واكتملت سعادتي بإعداد طرحة العروس من قطعة من التل التي كانت صرة صغيرة وزع فيها ملبس عرس حضرته أمي وسعدنا بأكله بلذة.
الجرح الثاني
أنظر إلى ندبة ملساء عتيقة عتيقة تزين الركبة اليمنى ، وأتذكر سعادة وصحة بدل دم نزف منها في البستان الغني بأشجار الخوخ الأحمر وشجرات تين خضاري، ودالية عنبها عسلي وبينها زرع من البندورة وبصل أخضر ونعنع وبقدونس كان مرعي يعتني بها ويحمل غلتها الطازجة إلى البيت لنأكل بفضلها السلطة الفلاحية المكونة من البندورة والبصل الأخضر وزيت الزيتون والليمون. وفي طرف البستان الشمالي يقع خم للدجاج البياض الذي كان بيضه الطازج أجمل هدية للفطور. ولكن أجمل من ذلك عملية التسابق مع أخواتي إلى خم الدجاج عندما نعود من المدرسة، لجمع البيض، بعد أن نرمي شنط المدرسة على قاع الدرج القريب من منبت الوردة الحمراء. كان حجر لئيم في ذات يوم السبب في وقوعي على الأرض وأنا أحاول أن أكون أول من يدخل بيت الدجاج لألم البيض في مريولي المخطط بالأبيض والأزرق. وبدل أن يتلوث المريول بغبار البيض، ذلك اليوم، تلوث بالدم الذي نزف من الجرح في ركبتي، ليظل ذكرى في الشتات يذكر بالبيت والبستان والدجاج والأهل والوطن.
الجرح الثالث
أنظر إلى آثار جرح على ساقي اليمنى، وأتذكر سبب هذة الزخرفة الجميلة العتيقة العتيقة التي نحتت على اللحم، وأتذكر أنها صنعت هناك في حرش شنلر . كان الحرش القريب من البيت مرتعا لي ولأولاد وبنات الحارة في الطفولة. سيقان شجر الصنوبر الطويلة الرشيقة كانت محطات نختبئ وراءها ونحن نبحث عن بعضنا بعضا في لعبة الغماية، ونتجول في طول الحرش وعرضه نستمتع بغناء العصافير وصيحاتنا وضحكاتنا عندما يعثر أحدنا على الآخرين.
كان للحرش حدود يسيجها سور يفصله عن كرم عنب وأشجار تين ناضجة، يحرسه الحاج المغربي وزوجته التي كانت تصنع حب المفتول من طحين القمح لأمي. لا يستطيع أحد تجاوز السور من غير إذن من الحاج الذي كنا نهابه. إلا أنني في أحد الأيام تسللت إلى الكرم وتغولت مع أختي ناهدة لنقطف الحنون الأحمر (شقائق النعمان) والزوزو (قرن الغزال). وكانت طويلة الساق الجميلة تنمو بين الصخور التي تحميها من شرنا، ولم يكن من مكان أفضل من الموقع بقرب بيت الحاج. تمكنا بأمان وسعادة من جمع باقتين من الزهور التي كانت المفضلة لدى معلمتي عايدة الخضرا، ومعلمة أختي ليلى الخالدي في مدرستي المأمونية في باب الزاهرة في القدس. وعلى حين غفلة شعر الحاج بنا وبتحدينا له، وأمام طلته وصياحه أطلقنا لسيقاننا العنان لنهرب من عصاه، وركضنا وركضنا، وهو يركض وراءنا دون أن يمسك بنا إلى أن وقعت على الأرض ليعاقبني حجر أسود بدل عصا الغاضب، إلا أن غضبه تلاشى وهو يطمئن على ساقي التي نزفت دماء من لون الحنون.. وصلني الحاج للبيت وهو يمسك يدي، ويحمل باقة الزوزو والحنون، ليشرب الشاي مع أمي الغالية التي قالت له: بنات جاهلات يا حاج. سلم على أم محمد.