ما قدمته الدكتورة عايدة النجار في كتاب «بنات عمان أيام زمان» لم يكن رحلة في أثير الحنين استهوت كثيرين ممن عاشوا أطراف ذلك الزمن أو ولدوا بعد انقضائه لتستلم عمان لايقاع السرعة الذي لا يمكن أن يتأنى للتأمل في التفاصيل أو ينحني لفكرة الجمال دون أن يفكر في حسابات الربح والخسارة، كما أنه لم يكن كتابا وثائقيا يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المدينة وأهلها، كان ذلك كله، بالإضافة إلى الدخول في مساحة جديدة من التأريخ الاجتماعي، وجدت لماما، وفي صورة شذرات من خلال مذكرات بعض الساسة ورجال المجتمع، مع أنها تشكل فنا للكتابة، مستقلا بذاته، وبمعالم وحدود واضحة، في سورية، مصر، العراق، لبنان، الدول التي شهدت مرحلة من النضج الحضاري المبكر قياسا ببقية الدول العربية التي شهدت مرحلة من التفجر الاجتماعي التراجيدي، كدول الخليج، لم يؤهلها لتمر بمثل تلك المرحلة من معايشة العصر الأول للانفتاح على الحداثة، ونمط الحياة المديني، وفي بنات عمان وجدنا ذلك الجزء الغائب من الذاكرة الأردنية يطل بقوة ووضوح وثقة ليشكل حدثا ثقافيا أردنيا له نكهة خاصة تتسم بالفرادة في تاريخ المدينة، ويكاد بنات عمان على بساطته وحميميته، يضاهي في أهمية ما تناوله من مشاهد مهمة في تاريخ المدينة، العمل الكبير الذي أفرده عبد الرحمن منيف لعمان في السيرة التي كتبها للمدينة، وجانبا من الملامح التي شكلت خلفية لإبداع مؤنس الرزاز.
عمان مدينة مرت بمرحلة مهمة من العبور بالتراكيب الاجتماعية الأرستقراطية والبرجوازية، لم تكن مدينة معتقة في استيعاب هذا الجانب، ولكنها استقبلت القادمين من المجتمع السوري صاحب التقدير للتراتب الطبقي، ومن فلسطين أتت العائلات صاحبة التراث التاريخي في التعامل مع السلطة العثملية، ومثلت أرستقراطيات محلية معتادة على النمط الكوزموبوليتاني (الكوني) للحياة المعاصرة، بينما كان الأرمن وتجار الجزيرة العربية يمثلون القلب البرجوازي للمدينة، وبجانب ذلك أتت النخبة الأردنية من البيروقراطية العثمانية مع وجهاء العشائر لتكون عمقا للمدينة وعاملا حاسما في تحولاتها المبكرة، وعلى غير مبعدة من عمان، وربما، في المدينة الأقرب إلى عمان من الناحية الاجتماعية ضمن الإقليم الشامي، تستكمل الدكتورة عايدة النجار مشروعها مع كتابها الجديد «القدس والبنت الشلبية» الذي تعتمد فيه على تناول مرحلة مهمة وحاسمة من تاريخ المدينة، وهي لا تتعاطى مع القدس من الزاوية الشائعة، كقيمة دينية عالمية، وإنما تتعامل مع المدينة وناسها، مع تاريخ من دم ولحم، تتجاوز الإشارة اللاذعة التي للشاعر مريد البرغوثي في كتابه «رأيت رام الله» حول النزعة التي تغلف نظرتنا للقدس، وتجعلنا نحصرها في رمزية ونتبعد عن واقع المدينة وتطورها المحكوم بقوانين التاريخ، ذلك ما يمكن النجار من تقديم كتابها ضمن تصنيف الإبداع وليس أي تصنيف معرفي آخر، فالمسألة تشبه المصور الفوتوغرافي أو الفنان التشكيلي الذي يصنع لوحته ويتركها مفتوحة للتأويل.
بعد مفتتح قصير حول المدينة تعبر النجار إلى مساحتها المفضلة، الناس، البشر، العادات، التراث الشعبي من رقصات وأغنيات، الذوق العام، الملابس، الأسواق، الطعام، غيرها من المفردات التي تعبر عن طرائق الحياة، ثقافة المدينة، روحها، شخصيتها، ذلك عبر فصول عدة، تناولت في بعضها مجموعة من المعالم المادية والطبيعية والظواهر الاجتماعية التي تميز القدس، فقدمت ضمن فصول الكتاب لأهم القصور والأماكن التي أعطت المدينة نمطها العمراني وحفلت بجانب من ذكرياتها، بحيث لم تصبح البيوت مجرد كيانات هندسية، وإنما جزء من المجتمع تعبر عنه وتقدمه للعالم، وفي فصل آخر تقدم المؤلفة للتعليم في المدينة ومؤسساته بما جمله من مد قومي وطموح لبناء بيئة أفضل وأكثر انفتاحا، وتفاجئنا في فصل آخر بالعمل الطوعي النسوي في المدينة كبادرة مبكرة لفكرة المجتمع المدني، وتقدم أيضا للحركة الصحفية في المدينة من خلال الإعلاميات الرائدات في المدينة، وتلقي الضوء كذلك على الأديبات والمبدعات من بنات المدينة، بعضهن حظين بشهرة في الأدب الفلسطيني والعربي مثل سميرة عزام وسلمى الخضرا الجيوسي، وأخريات يعطينا الكتاب الفرصة للتعرف عليهن مثل أسمى طوبي ونجوى قعوار، ولا تغيب السياسة عن الكتاب، فالقدس مرت بتجربتها الخاصة التي خلفت أثرها على المنطقة ككل، ولم تكن السياسة المقدسية الساخنة حكرا على الرجال وتحالفاتهم التي أصبحت معروفة للجميع، وإنما يظهر أن للمرأة المقدسية دور كبير أيضا، ليس على مستوى المتابعة أو الوقوف وراء الرجال، وإنما المشاركة الفاعلة والفارقة في تاريخ القدس، وفي الكتاب بجانب نصه المتدفق في بساطته ثروة من الصور البليغة التي تعطي العمل ككل أجواء رومانسية فائقة.
يبشر مشروع عايدة النجار بالمزيد، ويشجع كثيرين على خوض تجارب مماثلة، يمكن أن تكون بجانب الجهود المبذولة في مجال التاريخ الشفهي فرصة لإعادة النظر في تاريخ الأردن، خاصة في ظل التأثر والتأثير الواسع والمتبادل بين المدن الأردنية ونظيراتها في الإقليم، إلا أن انجاز هذه الأعمال يتطلب حساسية خاصة في التعاطي لتحافظ على شخصيتها الإبداعية المستقلة وتقف في مكانها الذي يحول دون مضيها في الجمود الأكاديمي أو التفريط المخل الذي يصبغ بعض الكتب التذكارية التي تصدر بين وقت وآخر.