“القدس جزء من وجداني وهويتي التي تحمل عادات وتقاليد الوطن والأهل، فقد ولدت في أكنافها وترعرعت بأحضانها في طفولتي.. لعبت تحت أشجار التين والزيتون وزهر الرمان والصبار الذي يسيج حواكير ريفها، وضحكت بصوت عال وأنا أطير على المراجيح القريبة من المسجد الأقصى وأتذوق حلاوة العيد البيضاء القاسية وشعر البنات”. بهذه العبارة قدمت الدكتورة عايدة النجار كتابها الجديدة “القدس والبنت الشلبية” الصادر حديثا عن دار السلوى للدراسات والنشر بعمان. وقد أهدت الكتاب الى روح أمها التي كما تقول: “علمتني الحب والأحلام. والى بنات ورجال فلسطين في القدس وكل المدن والقرى وأينما وجدوا في الشتات”. والى القدس “المكان” الذي يسكن في عيون وقلوب من احبوها لتبقى “زهرة المدائن” التي يغني لها الناس في أنحاء المعمورة “يا مدينة السلام”.. يتألف الكتاب من 375 صفحة من القطع الكبير وهو الكتاب الثالث للدكتورة عايدة بعد أن أصدرت “صحافة فلسطين والحركة الوطنية 1900 ـ 1948” عام 2005 الذي حاز على عدة جوائز منها جائزة جامعة فيلادلفيا لأحسن كتاب في العلوم الإنسانية 2005، وحاز على جائزة أفضل كتاب عربي في مسابقة (الأيام) البحرينية المصاحبة لمهرجان الايام الثقافي الثالث عشر. كما حازت على شهادة تقدير من وزارة الثقافة الاردنية. وصدر لها أيضا كتاب “بنات عمان أيام زمان.. ذاكرة المدرسة والطريق” 2008 وقد لاقى إقبالا كبيرا لتناوله مرحلة الخمسينيات ليحكي سيرة المدينة والناس. واعتبرت المؤلفة نتاجها مساهمة من نوع جديد لسد بعض الفراغ في تناول التاريخ الاجتماعي لمدينة القدس وإحياء تفاصيل الحياة اليومية ورسم صورة نابضة تحوي أحلاما كانت تتفاعل في فلسطين من أجل مستقبل أفضل لم يتحقق بسبب الاستعمار الجديد وممارساته لطمس الهوية. وفي كتابها الجديد تركز عايدة النجار على الإنسان والأرض والعلاقة التلاحمية بينهما وتتجول في القدس المدينة التي تتسع لتشمل أكنافها وأبعد في جغرافيتها الجميلة مصطحبة المرأة الفلسطينية واصفة صبايا القدس “بالبنت الشلبية” أي الجميلة، وهي أحد مفردات المقادسة “نسبة للقدس” الذين يتميزون باستعمال الكلمة ومعناها أكثر من غيرهم في المدن الأخرى لتضفي خصوصية على نساء القدس. وفق ما تقول الدكتورة عايدة النجار أن مفردة “البنت” استعملت للتعبير عن المرأة الفلسطينية “منذ أن كنت طفلة صغيرة إلى أن أصبحت امرأة ناضجة لها دور في الحياة المقدسية أو الفلسطينية”. الكتاب يتناول بما يقترب من سيرة حياة للمؤلفة والمدينة وناسها في فترة زمنية محددة لها خصوصيتها في تاريخ القدس الاجتماعي أفرزته المرحلة السياسية للانتداب البريطاني على فلسطين 1920 ـ 1948 وفيه امتداد لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية للناس في العهد العثماني. حكاية تروي المؤلفة بأسلوب سلس وممتع باللهجة المحكية أحيانا ما تختزنه ذاكرتها أو شهادات حية تفاصيل تكاد تكون يومية حياة الناس العاديين ودورهم في صنع المدينة مستشهدة بالكثير من الصور لمن شاركوها في ذكريات طفولتها، وتستحضر الماضي الجميل في مدينة أسيرة تستغيث بنا منذ ثلاثة وستين عاما دون أن نلتفت لاستغاثتها، وكأنها تسترجع وهج العشق لمدينها والذين أحبوا حاراتها وأزقتها. وتكشف جوانب سيكولوجية في المجتمع الفلسطيني وربما العربي أيضا التي تفضل إنجاب الذكور على الإناث باعتبارهم “عزوة” في مجتمع زراعي آنذاك يستند لسواعد قوية تخيف الآخرين على بنت يبقى همها حتى الممات. والحقيقة أن وصف البنت بـ”الشلبية” بغض النظر عن مقياس الجمال فإنه بمثابة عزاء لمن ينجب بنتا وحتى لا يزعل أو يتملكه الغضب فيقال أن البنت “شلبية كثير ما شاء الله بيضا وشقرا وعينيها زرق”، فبعض الرجال يقاطعون زوجاتهم حتى يستوعبوا الصدمة ولا يقدمون تهنئة بالسلامة أو هدية مناسبة، ولم تسمع زغرودة تلعلع من الشبابيك لأنهن “أمهات البنات”، وربما يدفعهم ذلك للزواج أو التهديد به تحت ذريعة أنه يريد ولدا يحمل اسمه ويبقيه متداولا بين الناس وليس بنتا ستحمل اسم زوجها في المستقبل. ومن التراث تستحضر عايدة النجار بعض الأهازيج الخاصة بهذه المناسبة بالذات: طويلة مثل شجر الزان وعودها ملان وفمها صغير مثل خاتم سليمان وخدودها تفاح الشام وسنانها لولو ومرجان والذي قد يميز الكتاب عن كثير من الروايات والدراسات والأبحاث التي تناولت المدينة المقدسة أنها تتزامن مع استمرار ممارسات إسرائيل بالاعتداء على الممتلكات الخاصة وطرد أهلها مسلمين ومسيحيين وتغيير معالمها وطمس تاريخ المكان الذي عاشت فيه “البنت الشلبية” مع عائلتها وناسها في بيوت حجرية عتيقة وحديثة دافئة وفي بيئة لها عادات وتقاليد وتراث وتاريخ شكّل هوية الناس وشخصياتهم بسمات تنبع من المكان نفسه. ذاكرة وترصد ذاكرة المكان من عيون زواره من العرسان والمصطافين التنزه “شمات الهوا” حيث فرق “الجناكي” المتخصصات بالغناء في يافا التي كانت تقيم حفلات تساهم في خلق جو من الفرح بالإضافة لاشتراك فرق مصرية مسرحية كنجيب الريحاني وزوجته بديعة مصابني ومن الطريف أن صبايا القدس كن يشترطن على العريس قضاء شهر العسل في “روبين” ويقلن كما تذكر فايزة المهتدي عن رواية لأمها “روبّني” أي أريد قضاء شهر العسل في روبين لجمال المنطقة وقيام احتفالات هناك بين شهري يونيو ويوليو وهو من الأنبياء له مقام ومسجد قرب يافا. وتتطرق للأكلات المنسوبة لمناطق بعينها كـ”المسخن” في شمال فلسطين و”القدرة” الخليلية وهي من الأرز ولحم الخاروف يوضع في قدر من الطين يطمر في حفرة حولها النار أو في الفرن والسمك ليافا وغزة والكنافة لنابلس والمنسف الذي أحبه الرجال الذي يطبخ من الأرز واللحم واللبن وخاصة في الأعراس. مقهى الصعاليك وتستحضر الكاتبة قصة مولودة لم يرحب بها عند ولادتها “كلثوم عودة” الكاتبة والأديبة التي سجلت اسمها في روسيا كما فلسطين مبدعة “شلبية” لترفع رأس بنات وطنها حيث احتفى بها مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني وعرض عليها البقاء في القدس وترؤس مركز في التربية والتعليم لكنها رفضت وعادت لروسيا حيث تقيم كما احتفى بها مفكرون وأدباء وعلى رأسهم خليل السكاكيني وبندلي الجوزي وهم من رواد مقهى الصعاليك “بيت المثقفين الفلسطينيين” بالقدس التي باركت حبها و زواجها. والصعاليك كما هو معروف فرقة من الشعراء المتمردين على المجتمع والقبيلة كانوا ينهبون أموال الأغنياء ويعطونها للفقراء ومن أشهرهم عروة بن الورد. صالون ميّ وعرف أهل القدس وفلسطين عن بنت شلبية أخرى هي مي زيادة التي ولدت بالناصرة وتركتها وعمرها 14 عاما لبيروت والقاهرة وظلت تردد وهي بعيدة “أيه يا ناصرة.. لن أنساك ما دمت حية.. سأعيش دوما تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في منازلك الصامتة” وتعاطفت نساء فلسطين ورجالها مع الأديبة التي افتتحت بالقاهرة صالونا أدبيا وحرمت من الحب. ووفق عايدة النجار فقد جذب صالون مي زيادة أبرز المثقفين امثال أحمد لطفي السيد الذي قيل عن وجود علاقة غزلية بينهما ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد واسماعيل باشا صبري ومصطفى عبدالرازق وسلامه موسى. ومن الفلسطينيات ماري شحادة وأسمى طوبى ونجوى قعوار والعالمة المتصوفة فاطمة اليشرطي. وقد وصف طه حسين الصالون: “كان صالون مي زيادة ديمقراطيا أو قل أنه كان مفتوحا لا يرد عنه الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية.. منهم الرجال والنساء الذين يتحدثون بلغات مختلفة وربما استمعوا لقصيدة أو مقالة أو قطعة موسيقية أو أغنية تنفذ للقلوب”. ومن وجهة نظر أحد مريدي صالون مي زيادة “كانت على سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن الاسترجال وأشدهن استمساكا بالخصائص النسوية بقامتها الربعية ووجهها المستدير وهي زجّاء الحاجبين وعجاء العينين يتألق الذكاء في بريقهما وشعرها الطويل يجلل صفحة وجهها”. ورأى رجال آخرون جمالها في أدبها وثقافتها وأطلقوا عليه أوصافا مثل “الأديبة النابغة” و”فريدة العصر” و”ملكة دولة الأوهام” و”حلية الزمان” و”الدرة القيمة”. وتذكر المؤلفة أن مي زيادة ذاقت الحب العذري عن بعد مع جبران خليل جبران الذي كان يعيش بالمهجر لكن بعد المسافات حرمتها من الحب الحقيقي فكتبت له تقول “إنني لا أعرف ما أعني ولكنني أعرف أنك محبوبي وإني أخاف الحب” فكتب لها: تقولين ليّ أنك تخافين الحب لماذا تخافين يا صغيرتي أتخافين نور الشمس أتخافين مد البحر أتخافين مجيء الربيع لم يا ترى تخافين الحب.

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment