بعد كتابها :بنات عمان أيام زمان» الذي صدر قبل سنوات قليلة.. ها هي الباحثة والاعلامية د. عايدة النجار تصدر كتابها الجديد قبل أسابيع عن بنات القدس أيام زمان عبر حياتها من عدة جوانب لتلك المنطقة المقدسة من أرضنا العزيزة فلسطين المحتلة.
وكما عرفنا سابقاً ان عايدة النجار مثلما هي ابنة عمان هي أيضاً ابنة القدس التي ولدت فيها ودرست صغيرة في مدارسها وعايشت بعض أجوائها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. الخ وهي الباحثة التي اعتمدت أيضاً على العديد من المراجع والمقابلات ليخرج كتابها هذا متكاملا في موضوعه عن الفترة الزمنية القديمة قبل اكثر من ستين عاما.
تقول المؤلفة عايدة النجار: لهذه المدينة «القدس» مشاعر قوية عميقة لديّ, لأنني ولدت في اكنافها «لفتا» وترعرعت في أحضانها ولعبت تحت أشجار التين والزيتون وزهر الرمان والصبار الذي يسيج حواكير ريفها, وضحكت بصوت عال وأنا أطير في القدس العتيقة على المراجيح القريبة من المسجد الاقصى بفستان العيد الزهري, وانا آكل الكعك بسمسم وحلاوة العيد البيضاء واتذوق شعر البنات.
من طفولة المؤلفة
والقدس جزء من وجداني وهويتي التي تحمل عادات وتقاليد الوطن والاهل كما تحمل الذاكرة بدء حياة علمية غنية حيث فككت الحرف وانشدت نشيد «موطني موطني» مع بنات مدرستي المأمونية الحكومية بباب الساهرة حيث رددت وراء معلمتي (راس روس دار دور) ليفتح الدرس الاول طريقاً للغة عربية سليمة لبنت كما بقية اطفال القدس وفلسطين.
وظلت مكانة واهمية المكان في خاطري عميقة وقد نشأت في بيت حجري أبيض مسمسم جميل في لفتا القدس له درج خارجي تتسلقه شجرة ورد جوري احمر له رائحة نفاذة اخالها ما زالت تتحكم بحاسة الشم.. وفي البيت شكلت رائحة طبيخ أمي وخبز ستي وعرق والدي وضحكات أخي الوحداني بين سبع بنات صورة للعائلة.. ظلت واضحة للمكان والانسان.. ويعمق هذه الصورة ما ارتبط بها في الجوار والحارة من مكان القدس وناسها, تمتد الصورة للاسواق العتيقة للقدس داخل السور وخارجه لترسم صورة للمدينة التي لها خصوصية لا تضاهيها مدينة أخرى. وتكمل د. عايدة قائلة: ومدينة القدس تحت الانتداب البريطاني كانت (عاصمة فلسطين) وهي الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب.. وقد اخترتها لأنني عشت فيها بعضاً من ذلك الزمن قبل ان نصبح لاجئين 1948 ونرحل عن الدار والوطن, ونعيش في أمكنة أخرى حتى اليوم.. وفي الكتاب تتجول مؤلفة الكتاب في «المكان» القدس المدينة التي تتسع اكناف القدس وأبعد في جغرافيتها الجميلة. وتصطحب في جولتها هذه في المكان وبشكل خاص المرأة الفلسطينية مع ناس المدينة.. وقد أسمت نساء القدس وفلسطين «بالبنت الشلبية» أي الجميلة, وهي احدى مفردات المقادسة التي يتميزون باستعمال هذه الكلمة ومعناها اكثر من غيرهم في المدن الاخرى لتضفي خصوصية على «بنت القدس» .. وأما مفردة «البنت» فتستعمل بالكتاب للتعبير عن «المرأة الفلسطينية» وبكل احترام, منذ ان كانت طفلة صغيرة الى ان أصبحت امرأة ناضجة لها دور في الحياة المقدسية أو الفلسطينية بشكل عام, وكجزء من ناس المدينة.
هل حقا؟! أرض بلا شعب؟!
ويتزامن اصدار هذا الكتاب مع استمرار الممارسات الاسرائيلية بالاعتداء على الممتلكات العربية وطرد أهل القدس ومحاولة تفريغها من أهلها المسلمين والمسيحيين وتغيير معالم المدينة واقامة المشاريع العمرانية اليهودية على انقاض الآثار الاسلامية العربية.. وتهدف من ذلك الى طمس تاريخ المكان الذي عاشت فيه «البنت الشلبية» مع عائلتها وناسها في بيوت حجرية عتيقة وحديثة دافئة وفي بيئة لها عادات وتقاليد وتراث وتاريخ شكل هوية الناس وشخصياتهم بسمات تنبع من المكان نفسه, ومنذ آلاف السنين ومع ذلك لا يزال لأهل القدس عن الشرائح الاجتماعية المختلفة بما فيهم المرأة وجود ودور وأحلام عن القدس وفلسطين, وحياة مكانها وناسها كما يسترجعها هذا الكتاب.. فحياتهم كانت حافلة بالعمل والعطاء حيث ساهموا في صنع المدينة وحركتها وتاريخها وحضارتها العربية الاسلامية والمسيحية, وبهذا كذبوا مقولة الصهيونية أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب.. رغم وقوعهم تحت الاحتلال البغيض.
عائلات وناس القدس
واحتضنت القدس القديمة الاكثرية من سكانها العرب الفلسطينيين الذين كانت غالبية بيوتهم تتوزع في الحي الاسلامي اكبر احياء المدينة المسورة ويأتي تشابه الحارات في القدس انها تشكل مجموعة من الاحواش لتضفي على كل عائلة أو حمولة تعيش فيه خصوصيتها. ففي كل حوش مجموعة من الشقق والبيوت المترابطة مع بعضها بعضاً لتربط الأسرة والاقارب. وكذلك الاحواش والازقة والاسواق.. منذ عصر المماليك والعثمانيين. وظل المكان يتوارث عنوان العائلات المقدسية العربية التي عاشت فيها.
ورحبت المدينة بالناس من الاجناس والاعراق والاديان المتنوعة كما الناس الاصليين العرب, وتعايشت الديانات بين المسلمين والمسيحيين واليهود من السكان. ورحبت العائلات المقدسية بالوافدين للسكن في مدينتهم من مسلمي الهند وبخارى وفئات أخرى بينهم المغاربة الذين سميت حارة باسم الوافدين من تونس والجزائر قبل مئات السنين ليجاوروا المسجد الاقصى بعد أداء فريضة الحج ويستقروا أيضاً في القدس من المسلمين الحجاج التكارنة الذين قدموا من تكرور في السنغال من افريقيا, وكذلك الاكراد والشركس .. الخ.
أما المسيحيون العرب فقد أقاموا في حارة النصارى في البلدة القديمة وفي القرى والبلدات المجاورة مثل بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وحيفا وعابود وعين عريك, ويوزع انتماؤهم الديني بين الطوائف المسيحية المختلفة, وشكل الروم الارثوذكس غالبية المسيحيين. ومن الطوائف الاخرى الروم الكاثوليك او الافرنج والارمن الذين قدموا من تركيا وكردستان, وسميت حارة الارمن باسمهم وقد عرفوا بنشاطهم المهني الذي جعل منهم أغنى الطوائف المسيحية في القدس.
وفي المدينة عاشت فئات أخرى من السكان منهم الاقباط الذين قدموا من مصر والحبشة للاحتفال بافتتاح كنيسة القيامة وبقي بعضهم في المدينة. وهناك السريان الذين جاءوا من سوريا عندما احتل الصليبيون المدينة. والموارنة وهم الاقلية بين الطوائف المسيحية, وكان يتوافد على القدس حجاج مسيحيون من اليونان واسبانيا وايطاليا وارمينيا.
واتى اكثر اليهود الى مدينة القدس بعد سقوط الاندلس عام 1492 هربا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا الذين يتكلمون مزيجا من اللغة الاسبانية والعبرية, وقدم بعضهم للقدس من شرقي اوروبا ووسطها, ولم يزد عدد اليهود في القدس بداية القرن 19 عن 2250 نسمة.
سلطانة حلبي.. نمرة طنوس
وفي الفصل الاول تذكر الباحثة د. عايدة النجار عن ذاكرة المكان والمثقفين والمثقفات الاوائل مثلا فتقول: وظلت ذاكرة القدس تفاخر بالاصدقاء المثقفين والامكنة التي تعايشوا فيها مثل مكتبة سلطانة حلبي 1901 ? 1985 التي كانت احداهن فقد احبت سلطانة القراءة والعلم منذ صغرها لتصبح من اوائل الرائدات ولتسافر الى اميركا لتحصل على درجة جامعية في التجارة عام 1934 في الوقت الذي كان قلة من الرجال قد تخصصوا في هذا المجال فقد كان تجار القدس والمهن الاخرى يمارسون المهنة, دون الحصول على تخصص في ذلك, ويرثون المهنة أباً عن جد ويقولون (التجارة شطارة) واثبتت سلطانة انها رائدة ومثقفة عندما اسست (دار الكتب) احدى اوائل المكتبات التجارية العامة في القدس.. وكان موقع المكتبة خارج السور بين بوابة المسكوبية والبريد لتشجع المثقفين من العرب والاجانب لزيارة المكتبة لشراء اهم الكتب العربية والاجنبية, ولم ينس يعقوب جوري وماري عطاالله من اهل القدس الزاوية الفنية في المكتبة التي كانت تعرض الاعمال الفنية الاوروبية العريقة مثل لوحات وانتاج شركة T.SKiro السويسرية التي تباهى المثقفون باقتنائها.
ولان الذاكرة ظلت حية فعند قدوم سلطانة الى عمان اسست اول مكتبة تجارية في عمان بشارع السلط (شارع الملك حسين قرب سينما زهران) واطلقت عليها اسم دار الكتب ايضا وذلك بعد العام 1948.
وعملت قلة من البنات في اعمال كانت من اختصاص الرجال احداهن (نمرة طنوس) التي عملت في دائرة البريد وانضمت للمناضلين بقيادة عبدالقادر الحسيني, اذ كان عملها تامين المخابرات الهاتفية, وتمكنت من شغل وظيفة ارتباط بين القوات العربية والوسيط الدولي الكونت برنادوت الذي قتله الصهاينة عام 1948.
كما عملت نمرة في صفوف الجيش العربي الاردني كمتطوعة وكانت ترتدي زي الجندية كما الرجال, وفي الاربعينات عملت نجلا حنا نصار ايضا في البريد وهي خريجة مدرسة الشميت ولتستمر بالعمل بعد النكبة في وظائف غير تقليدية منها العمل في الشركات كسكرتيرة.
وكذلك قامت قلة من النساء بالعمل في دائرة الشؤون الاجتماعية في القدس والخليل بينهن ربحية الدجاني وكانت تقود السيارة بنفسها مع الزميلات والزملاء للوصول الى العمل في الخليل.
مدارس البنات والازهار
وطرزت الازهار البرية الارض في ربيع فلسطين الطويل بالنرجس والدفلى والسوسن والحنون والزوزو وزهور اخرى.. حتى ان اهل القدس وقراها كما بقية فلسطين قد اطلقوا اسماء الزهور والورود على بناتهم مثل: زهرة, فلة, وردة, ياسمينة, حنونة, سوسن.. الخ, وشبهوا جمال خدود البنت الشلبية بالفاكهة, حيث وصفت خدودها بالمشمش الذي يدل على اللون الحيوي المفرح, وهناك قول اخر: «صحن المشمش لا تكمش» ودوّر عاللوزية, وزين البنات لا تؤخذ دور عالاصلية, أي ان ثمار المشمش اجمل من ثمار اللوز, الا ان شجرة المشمش تطعم على شجرة اللوز وهي الاصل.
وغنت نساء القرى حول القدس مشبهات جمال البنات وهن يرقصن في المناسبات السعيدة:
ميلي ميلي يا شجرة التفاح
ميلي ميلي يا حاملة التفاح
ميلي ميلي عا محمد الفلاح
ميلي ميلي اسم الله عليه
ميلي ميلي يا شجرة الليمون
ميلي ميلي يا حاملة الليمون
ميلي ميلي عا محمد المزيون
ميلي ميلي اسم الله عليه.
وكانت هناك اماكن واسعة متناثرة حول القدس لبنات المدارس فيلعبن ويقطفن الزهور لحملها لمعلماتهن في مدرسة المأمونية مثلا التي تقع في باب الزاهرة قبل ان يتشرد اهل القرية وتصبح مهجورة وتبنى على اراضيها المستوطنات البغيضة التي قتلت الزوزو والحنون وافراح البنات.
البنت شلبية
وظلت صفات البنت الشلبية وكانها متوارثة وتحكم جمالها صفات احبها الناس واصبحت نمطية عندما يبحث الناس عن عروس صفاتها كما كانت الجدات يرددن وكما سجلنها في التراث:
«طويلة مثل شجرة الزان.. وعودها ملآن.. وفمها صغير مثل خاتم سليمان.. وخدودها تفاح الشام.. وسنانها لولو ومرجان». فالبنت المحظوظة بمثل هذه الصفات الجمالية مرحب بها اكثر من البنت السمراء, اذ قد تضمن العائلة للطفلة من يوم مولدها عريسا للعائلة ابن العم او ابن الخال او من العائلات الميسورة, اما اذا كانت البنت سمراء فتقول الداية والنساء للوالدة كتعزية مبطنة: «ما شاء الله.. سمرا وعيونها وساع ودمها خفيف».
ويقلن ذلك دون معرفة اذا ما كانت فعلا دمها خفيف حقا, وان البكاء يزيدها عدم قبول مثل البنت الشلبية ذات البشرة البيضاء.
ولم تكن المطربة فيروز قد غنت اغنيتها المشهورة قبل النكبة التي رفعت معنويات البنت السمرا واهلها بعدما تغيرت مقاييس الجمال في الخمسينات.
فقد عبرت فيروز بمشاعر رقيقة نحو المحبة والاعجاب بالبنت السمراء قائلة في اغنيتها مثلا: «سمرا يم عيون وساع والتنورة النيلية.. مطرح ضيق ما بوساع رح حطك في عيني» وغنت ايضا للبنت الشلبية مغردة: «البنت الشلبية.. عيونها لوزية.. حبك في قلبي.. يا قلبي انتي عيني».
وبعد.. لقد حاولنا في هذه الجولة السريعة على مواضيع كتاب الباحثة والاعلامية د. عايدة النجار ان نشير الى البنت والمرأة الشلبية قديما في القدس.. رغم ان في الكتاب مواضيع اخرى هامة وشيقة وجذابة وتتحدث عن شخصيات نسائية ورجالية هامة عبر الحياة الجميلة السعيدة التي عاشها اهل القدس في ايام الزمن القديم والجميل على ارض فلسطين.
وليد سليمان