لا تزال العادات القديمة المتوارثة معمول بها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، للاستعداد لعيد الفطر بعد رمضان، كما ترى الباحثة والكاتبة .عايدة علي النجار ،مستعيدة ذكريات رمضان والعيد بين الأمس واليوم.
وتحمل النجار درجة الدكتوراة (Ph.D) من جامعة سيراكيوز/ نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية (1975) في (وسائل الأعلام والاتصال الجماهيري- والسياسة).
صدر لها كتاب (صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن? 1900- 1948) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, 2005. حاز الكتاب على جائزة أفضل كتاب عربي في مسابقة( الأيام )الصحافية ( البحرين )المصاحبة (لمهرجان الأيام الثقافي الثالث عشر), 2006، كما حاز الكتاب ذاته على جائزة جامعة فيلادلفيا (الأردن) لأحسن كتاب في العلوم الإنسانية للعام 2005، وعلى شهادة تقدير من وزارة الثقافة الأردنية. كما قوبل كتابها «بنات عمان أيام.. ذاكرة المدرسة والطريق» بحفاوة بالغة في مجتمع العمانيين والعمانيات.تماما كما قوبل كتابها الأخير «القدس والبنت الشلبية» 2011.
معها نستعيد ذاكرة رمضانية، وذاكرة العيد.
هلال رمضان والطفولة
الذكريات المبكرة من حياة الإنسان لأيام لها خصوصية تظل قوية ومتجذرة في نفسه وشهر رمضان إحدى هذه الذكريات، ذلك لأن لهذه المناسبة طوال أيامه تبدو طقوسا وسلوكيات وثقافة م بفضل العادات والتقاليد والممارسات الدينية والحياتية الخاصة. فأيام رمضان وطقوسه ليست عابرة بل هي جزءا من حياة الإنسان في مراحل عمره المختلفة، الطفولة والشباب وسن الشيخوخة.. إحدى هذه الصور مراقبة هلال شهر رمضان بالعين المجردة كان ولا يزال يعتبر الإشارة الأولى لشهر الصيام رغم التكنولوجيات الحديثة التي لها القدرة على معرفة بدء الشهر فلكيا أتذكر مراقبة الناس للهلال من على أسطح المنازل وقد حملت ذاكرة الطفولة في شهر رمضان مع الأهل والجيران والحارة في لفتا قضاء القدس قبل اللجوء للأردن ولتستمر خصوصية رمضان ظلت صورة هلال رمضان معلقة في ذاكرتي كما كان الهلال معلق في السماء.
أتذكر كيف كنت اصعد مع الأهل على سطح البيت العالي لنراقب «هلال رمضان» عله يظهر وأتذكر كيف كان الناس يسعدون ويقولون لبعض « شهر مبارك « و»كل عام وأنتم بخير معبرين عن استقبالهم لرمضان، حيث كانت البهجة تعم الحارة، والأطفال يرددون هلّ هل هلالك يا رمضان»، وهم يصفقون ويستعدون للصيام وكان مدفع رمضان يسمع من بعيد ليبشر الناس أن رمضان قد ثبت وها هو المدفع يعلن عن ذلك تغيرت هذه الذاكرة في مراحل العمر المختلفة، وأصبحت وسائل الإعلام والفضائيات تبشر بحلول الشهر بعد تثبيه من قبل من شاهدوه وبلغوا المحكمة الشرعية كما يقتضي الأمر.
تظل تجربة الصيام الأولى
لقد كانت تجربة الصيام مبكرة في سن السادسة من العمر، ولكنها كانت تقليد للكبار، وأتذكر كيف كنا نحن الصغر نصوم ساعة أو أقل، وفي سن الثماني سنين كنا نصوم من الصباح للظهر ولم تنجح تجربتي للصيام وأنا طفلة طوال النهار ولكن كنت أنتظر المدفع وأفرح عندما أسمع صوته وأركض لأبشر الأهل الصائمين، وكأنني الوحيدة التي سمعته، كثيرا ما كان الأطفال يجلسون حول المائدة قبل الكبار، ويستمتعون برائحة الطعام التي كانت تستفزهم، رغم أنهم مفطرون كان الصيام في الطفولة وكأنها دروس للتعود على الصيام وتقبله في سن لاحقة.
طقوس يومية
أبدأ النهار في رمضان بشكل طبيعي، وقد تغير روتيني الصباحي حيث أسمع المحطات الإذاعية التي تبدأ النهار بالقران الكريم ومن ثم صوت فيروز الذي لا يزال يحمسني أن أنهض من الفراش لبدء يومي العادي، مثل قراءة الجرائد أو متابعة الإعلام والأحداث العالمية، إلا أن برنامج المشي الصباحي قد توقف. وأبدأ برسم خارطة اليوم لإنجاز أعمالي من حيث إعداد الطعام، أو القيام بالأعمال المتراكمة من كتابة أو قراءة، ففي رمضان عادة أتحرك وأنجز أعمالي في الصباح، ومن النادر أن أخرج من البيت بعد الظهر إلا في حالة الخروج وقت الإفطار تلبية لدعوة.
المسلسلات في رمضان
حجم القراءة للكتب الأدبية وغيرها تقل في رمضان، فقد بحثت هذا العام عن موضوعات تتعلق بالمرأة. فمثلا منذ بداية الشهر قرأت كتابا كنت قرأته «أيام زمان» للأديبة المصرية عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) «نساء الرسول». وفي الحقيقة أن إذاعة الجامعة الأردنية هي التي حفزتني على ذلك وقد استمتعت بقصص وتفسيرات حول نساء الرسول وأنا أقود السيارة، واستمتعت بالكتاب وما جاء فيه عن أعمال ايجابية للنساء لدورهن الايجابي في تطبيق القيم والمبادئ الدينية والإنسانية، بالإضافة إلى ذلك فقد نبشت كتابا أخرا لديّ، للدكتورة ليلى صباغ (المرأة في التاريخ العربي، في تاريخ العرب قبل الإسلام)، وتعلمت الكثير عن المرأة في الجاهلية، وقصص وادوار للمرأة تثير الإعجاب في مناحي الحياة المختلفة.
أما التلفزيون، فرغم الحيرة الكبيرة في اختيار المسلسلات، أحرص في رمضان على مشاهدة ثلاث منها واخترت هذا الشهر» في حضرة الغياب»، المثير للجدل وهي سيرة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومسلسل» الشحرورة» حول حياة الفنان اللبنانية صباح، ومسلسل «رجل من ذاك الزمان»، وهو عن حياة أول عالم مصري يتخرج من لندن في مطلع القرن الماضي وليؤسس كلية العلوم في جامعة القاهرة «علي مشرفة «. اخترت هذه المسلسلات التي أردت منها معرفة أكثر عن هؤلاء الأشخاص، وفي الحقيقة أنني انتظر رمضان بشوق لطقوسه وكرمه وخصوصيته الدينية والروحية، مع ملاحظة مهمة، فأنا لا أشاهد المسلسلات إلا في شهر رمضان، وبذلك أنتظر بشوق نشاطا لا أقوم به خلال الأيام العادية.
الأطفال يبعثون الفرح
كما نعرف لرمضان ثقافة خاصة من حيث الطقوس الدينية والعبادة والشعور بالراحة النفسية، بالإضافة، فله ثقافة اجتماعية تعزز التراث والعادات والتقاليد، التي أخذت بالزوال في بعض المجتمعات التي لا تمارسها من بين هذه المظاهر ما يشعر به الأطفال من سعادة وهم يستقبلون الشهر الفضيل، كان الأطفال يتراكضون وهم يبعثون الفرح في الحارات، ويرددون أهازيج شعبية منها توبيخ لمن يعرفون أنه مفطر: « يا مفطر رمضان يا مقلل دينه/ بستنا السودة تاكل مصارينه»، ولا تزال بعض الأهازيج تردد من الأطفال بشكل جماعي في الأحياء الشعبية رغم ندرتها هذه الأيام بعكس السابق، منها: «وحووي يا وحوي/ اياحا / كل يوم بالمنديلة/ اياحا ربي ارزقهم / اياحا /ما تفشلهم / اياحا/ ما أكرمهم / اياحا / وحوي يا وحوي / اياحا «.
كما ويسعد الناس في رمضان بالمسحراتي الذي كان له دور هاما في ايقاظ الناس بطبلته وقت السحور وهو يقول: «قوموا تسحروا يا نايمين/ كل سنة وانتم صايمين/ يا نايم وحد الدايم/ لا اله الا الله».
وعند أواخر أيام شهر رمضان وفي مثل هذه الأيام العشر الأواخر، كان المسحراتي يستوحش لرمضان الذي يشارف على الانتهاء ويبدو الحنين لمثل هذه الأيام التي اعتاد الناس عليها تخلق حالات نفسية مرتاحة للتواصل الرباني والخشوع، ويبدو هذا واضحا فيما يقول المسحراتي الذي سيغيب عن الحارة لمدة سنة قبل العودة لعمله الذي استمده من التراث: «لا أوحش الله منك يا رمضان/ يا صاحب التوبات والغفران».
مطبخ رمضان والولائم
لا شك أن لرمضان ثقافة خاصة منها المطبخ والطعام الذي يعد خصيصا في هذا الشهر فهناك محبة خاصة للناس لطعام لذيذ بعد جوع طويل انتظر مع الكثيرين العصائر مثل قمر الدين وعرق السوس والخروب، والتي تذكرني بالطفولة حيث كانت هدية يومية محببة أما القطايف فهي سيدة موائد رمضان التي تساهم في جعل رمضان «أحلى» لم تتغير العادات والتقاليد التي كانت متبعة بالنسبة لأنواع الأطباق الرمضانية، مثل الفتة، والمحاشي والسلطات والمقبلات وأنواع الخبز المتعددة ورغم أن هذا الشهر يبدو للناس كريما، فالناس يغالون في طبخ الأنواع المتعددة من الأطعمة، ولا ينطبق هذا على طبقة معينة بل يقوم أكثر الناس في المغالاة في ذلك ليعود بالسلب على ميزانية الأسرة وعلى الصحة مثل زيادة الوزن وعدم مراعاة الصحة لمن لديه أمراض ولم تتغير العادات بإقامة الموائد الرمضانية للأهل والأصدقاء فلا زالت الأمهات تقوم بأعمال إضافية مرهقة وهن يحضرن الأطعمة الكثيرة، بالإضافة لتعلم الطبخات الجديدة بواسطة البرامج التلفزيونية التي أخذت بالتكاثر والمنافسة ليصبح لرمضان مساحة كبيرة على الشاشات تنافس البرامج الدينية.
رمضان والتراث
بتغير الحياة الاجتماعية في المدينة اليوم، أصبح لرمضان عادات جديدة تمارس، أصبحت الجمعيات الخيرية والدينية والوطنية تبادر بإقامة الحفلات التراثية لجمع الأموال، من أجل دعم مشاريعها التي تعود بالفائدة على الفقراء، وانتشرت موائد الرحمن في السنين الأخيرة والمعروفة في مصر التي يقيمها الفنانون والمؤسسات، كما تقيم الفنادق الحفلات الجماعية المسلية التي يقدم فيها الفنانون مسرحيات اجتماعية فيها نقد لشخصيات عامة تبدو وكأنها تعبير عن مشاعر الحضور، وفي المقابل يكثر الإقبال على إقامة حلقات الذكر والتعبد في المساجد، التي أصبحت تؤمها النساء بشكل ملحوظ، وهن يشاركن في صلاة التراويح.
ويعيد رمضان للتراث ألقه فهناك محطات تلفزيونية تقدم للناس عادات وتقاليد الناس في الدول الإسلامية المختلفة، وأحرص في رمضان على متابعة مثل هذه البرامج واستمتع بمشاهدة «رقصات» الدراويش» أو ما يسمى برقصة «التنورة» بالملابس الخاصة التي يدورون فيها على أنفسهم،وكأنهم يغيبون عما حولهم، وأحب سماع الموشحات الأندلسية التي تحمل عبق التاريخ وفنه الذي يعبر عن عقل جمعي جميل.
عادات جميلة
لا زالت العادات القديمة المتوارثة معمول بها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، للاستعداد لعيد الفطر بعد رمضان، ولا زال عمل الكعك والمعمول من أهم النشاطات التي تؤشر على الفرح بالأعياد، خاصة والي ستقدم للضيوف فلا زالت زيارات المعايدة للأهل، وصلة الوصل وللأصدقاء من العادات التي تحتفظ بمكانتها، رغم وجود عادات جديدة، قد ازدهرت في العقود الأخيرة نشاطات الناس بالسفر إلى خارج البلاد،أو إلى أماكن السياحة في البلد كنوع من الاحتفال بالعيد، والانطلاق والشعور بالتغيير وقد شجعت وكالات السياحة والسفر ذلك وهي تنشر إعلاناتها الخدماتية والتجارية خلال شهر رمضان،وبشكل لافت، رغم الضائقات المالية للبعض، وأصبحت هذه السفرات عادات للبعض، لتقلل من أهمية استقبال الناس أيام العيد كما كان في السابق وينشط الناس بتوزيع المساعدات على الفقراء «الزكاة» وهي عادة حميدة تدل على التكافل الاجتماعي والمفاهيم السامية التي تقرب الفقير من الغني وتبعث السعادة للفقراء وان كانت وقتية ولا شك أنه لا يزال هناك خصوصية للاستعداد ليوم العيد عند الأطفال وخاصة بشراء ملابس جديدة لا يكتمل العيد من دونها ولذلك فالناس يقومون بالتسوق لتصبح الأسواق تغص بالناس وخاصة الأماكن الشعبية والمولات والدكاكين التي تنتعش نسبيا وهي تعلن عن التنزيلات التي يقبل عليه الناس بشكل وكأنه «اجباري»، وكأن الأطفال يمارسون ما توارثوه من عادات اجتماعية وان غابت أهازيج العيد لا تسمع في الشوارع والحارات كما كانت في السابق وهم يرددون سعيدين: «بكرة العيد وبنعيّد/ وبنذبح بقرة السيد/ والسيد مله بقرة/ بنذبح بنته هالشقرة/ والشقرة ما فيها دم / بنذبح بقرة بنت العم».
ينتظر الأطفال يوم العيد لجمع العيدية التي تسعدهم، وهم يعدون ما حصلوا عليه من الأهل وليصبح هذا المال خاصا بهم بتصرفون به كما يحلو لهم، وكأنهم يستقلون ماديا عن الأهل، ويجمعون رأسمالهم الخاص، وهم يقبلون يد الجد والجدة الذين يخصونهم بعواطف جياشة، تدل على صحة الأقوال القديمة : « ما أغلى من الولد إلا ولد الولد».
وكل عام وأنتم بخير لنحافظ على التراث وثقافة الأعياد في هذه الأيام التي نحن بحاجة فيها للفرح والسعادة ونحن نستبشر برياح الربيع العربي، التي ستصبح تواريخها أعيادا للأجيال تضاف لفرحة العيد.
سميرة عوض