بعيداً عن إشكاليات التجنيس الأدبي وحيثياته وضوابطه، يشكل كتاب عايدة النجار “القدس والبنت الشلبية” (2011) تجربة رائدة تستحق الوقوف عندها، لثرائها المعرفي وأسلوبها الأدبي ورونقها الاجتماعي وسياقها التاريخي، فضلاً عن أهمية الموضوع المطروح المرتبط بالقضية الأكثر إشكالية؛ قضية القدس، وهي تجربة تلت تجربة نجحت فيها الكاتبة إلى حدّ كبير في كتابها السابق “بنات عمّان ايام زمان” (2008).
يتخذ كتاب “القدس والبنت الشلبيّة” بفصوله الأربعة عشر وصفحاته الـ375، وضع الشاهد على أمر غائب، فالبنت الشلبية تشهد على القدس، والقدس تشهد على البنت الشلبية، والعنوان على هذه الشاكلة يزاوج بين غائبين عن مشهد الحاضر، فالقدس غائبة بجسدها حاضرة بروحها، والبنت الشلبية مشتتة جسدا وروحا بعيدا عن مهد حضارتها المقدسي وهي المنتمية إليه روحا وثقافة وتنشئة، ولعل في اختيار الكاتبة الذكي للفظة “الشلبية” بعدا يعكس شيفرة ثقافية مفهومة في تلك البقعة الجغرافية دون البقاع الأخرى.
هذا الغياب المزمن يستدعي استحضار المكان والإنسان من خلال الكتابة وتقنياتها القائمة على الاسترجاع والتذكر والتداعي إن لزم الأمر، فليس الغياب بالجسد يحتم غيابا في الروح. إنه تكامل محكوم بثنائية الحضور والغياب، فكتاب “القدس والبنت الشلبية” يتصدى لتاريخين غائبين هما: تاريخ القدس/ المكان، وتاريخ البنت الشلبية/ الإنسان.
هذا الكتاب بمثابة إحياء لنمط من أنماط السرديات العربية المبكرة في العصر الحديث مستوحاة من الحياة اليومية، فهو تعزيز للأدب الاجتماعي الذي يعتمد على الواقعة والغوص فيها أكثر مما يعتمد على التحليق في الخيال، فهو يقع في خانة الأدب الاجتماعي الملتزم على غرار الالتزام الذي نجده في أدب الرحلات وأدب السيرة. إنه أدب المجتمع، الذي يختلف عن الأدب العام الذي يكون تجسيدا لرؤية الكاتب، لكن هنا يجهد الكاتب ليقدم رؤية مجتمع بأكمله على حساب خصوصية ما يكتب، وهذا بحد ذاته يشكل عبئا في استجلاب التوازن للعمل، مع أن هناك أمثلة عديدة لما لجأت إليه الكاتبة في نمط الأدب الاجتماعي.
كثيرة هي الكتب التي تصدّت لموضوع القدس وإن غابت القدس عنها، خصوصا في العام 2009 عندما كانت القدس عاصمة للثقافة العربية، وكلٌّ أبلى بلاءه فيها، لكن في تجربة عايدة النجار هناك اختلاف، إذ تحضر القدس بوصفها شخصية تنمو رويدا رويدا في العمل مشكلة الخيط القصصي فيها إن جاز التعبير، وتشكل شخصية الكاتبة التي تتخذ دور الراوي العليم مكان الشاهد على حدث بائد. إنه النهوض من لحظة الصفاء وبناء الذات قبل حضور الغرباء والمحتلين، لحظة تشكل حضارة لم يكتب لها البقاء زالت بفعل الانتداب والاحتلال وتدنيس الهوية وتشويهها.
لقد استطاعت النجار في تلمساتها لملمةَ خيوط المكان وهسهساته وقصاصاته الصغرى المتواترة على الأفواه والمتراكمة في الأذهان لتصنع المكان والإنسان الغائبين عن الحاضر، فتهيئ كونا متكاملا في نقطة واحدة تجمع كل النقاط. إنه كتاب انسجام الشوق والحنين مدعّما بالوثائق والتواريخ والشواهد والبراهين وشخوص المكان، وهنا تكمن خصوصية هذا الكتاب وجدوى طرحه.
من حق أي كاتب يتورط في مثل هذا الموضوع أن يبدأ بذاته وشخصه وعنوان تذكره حتى يصنع الانسجام بينه وبين موضوعه، فمنذ الأسطر الأولى مارست النجار استدراج الحنين بقولها: “ظلت مكانة المكان في خاطري عميقة وقد نشأت في بيت حجري أبيض (مسمسم) جميل في لفتا/ القدس، له درج خارجي تتسلقه شجرة ورد جوري أحمر، له رائحة نفاذة أخالها ما تزال تتحكم بحاسة الشم. وفي البيت شكلت رائحة (طبيخ) أمي، وخبز (ستي) وعَرَق والدي وضحكات أخي (الوحداني) بين سبع بنات، صورة للعائلة، ظلت واضحة للمكان والإنسان. يعمّق هذه الصورة ما ارتبط بها في الجوار والحارة، من مكان وناس. وتمتد الصورة للأسواق العتيقة للقدس داخل السور وخارجه لترسم صورة المدينة التي لها خصوصية لا تضاهيها مدينة أخرى” (ص 9).
إنها لحظات ولادة الذات واستيقاظها على وقع مفردات المكان ونبضه الخلاب وتحليل مورفولوجي لعناصره، فيتركز الهم جليا غدقا رقراقا من أولى أدبيات القدس/ الإنسان وهو الذات المتلهفة للمكان الحرّ / المحتل / الغائب / الصامد / الممتد على وقع أحاسيس الذاكرة المثير لتوتراتها المحفز لاستدراكاتها.
إن شرطاً بدهياً من شروط الأدب الاجتماعي يقتضي أن يجذب القارئ ويلهمه بمعطيات المكان ليعيشه ويمارسه من دون تردد أو نفور، والنجار في كتابها ألزمت القارئ بذلك، فانتقلت به رويدا رويدا من الخاص جدا إلى الخاص، ومن العام إلى العام جدا في هرمية مقلوبة تبدأ بالأهم جدا من منظور الكاتبة على الأقل، إذ إن معيار الهمّ لديها هو ما يستحضر المسكوت عنه قصدا أو من دون قصد، فبدأت بأصوات القدس وحياتها اليومية ولهجتها وحجارتها ودورها العتيقة وجيرانها واسواقها وكعكها.. إنها دقائق التفاصيل بصريا وسمعيا، شمّا وذوقا ولمسا، وهي بلا شك حيثيات منسية تستنطقها الكاتبة بعيدا عن الاستعراض التاريخي الجاف. إنها القدس تقدم نفسها بلسان شاهدتها، البنت الشلبية التي لم يكن يسمع صوتها في كل الأحيان والأحوال.
لقد عرجت البنت الشلبية على حيثيات كثيرة وثرية جعلت المكان نابضا بالإنسان، فطافت بقصور المكان وذكرت نباتاته المتجذرة في التراث، وتحدثت عن علاقات المدينة بالقرية وعن موقع ابنتها الشلبية وحضورها الطاغي. كما ناقشت قيم العلم والجمال وأفراح المكان وأحزانه ودور نسائه في صنع القرار وتطور الحركة النسائية، وعن أزيائه وطعامه وشرابه وصحافته وأدبياته وسياسته وهمومه بتناسق جذاب ورائع يشبه حياكة ثوب المرأة المقدسيّة متعدد الألوان والتطاريز، بطريقة تتسامى على الوثائقية وتستدعي روح الأدب.
ملأت النجار القدس/المكان بشعب متحضر حاضر البديهة والبرهان، متألق في صناعة الذات وتطويرها. إنها ترفض بطريقة ما مقولة “أرض بلا شعب”، وتؤكد أن أصحاب المكان لولا ما جرى وكان لكانوا في طليعة الحضارات والنهضات، لكن انتكاسات التاريخ وهزائمه حالت دون هذا التجلي والازدهار.
الوقوف عند لحظة ما قبل الانتداب والانهيار وقوف مؤثر ومؤلم، فالقدس عجّت بعوامل كثيرة جعلتها في طليعة النهضة وسببا من أسبابها، حتى الحركة النسوية وأدبياتها كانت في السبق، إلى الحد الذي يترك فينا سؤالا كبيرا: كيف أضعنا هذه المدينة من أيدينا؟! هذه المدينة التي كانت تحكمها قوانين الحضارة وهي الآن في ظل الاحتلال لا ينتظمها أي قانون.
وكان لأسلوب الكاتبة دور الوصل دائما، فالنجار تقف موقفا متوسطا من لغة الأدب ولغة التاريخ، ما منح الكتاب قيمة أدبية كبرى أكسبت لغة الكتاب مرونة وشفافية. أما ضميرها المتكلم فكان يظهر بين الفينة والأخرى لسرد قصة ما وسرعان ما يختبئ في زحمة الصور: “كانت البنات الصغيرات يلعبن (بيت بيوت) ويقلدن الكبار في زفة العروسة. وأتذكر كيف كنت ألعب في طفولتي مع لعبتي التي كان اسمها (نجوى). أثاث البيت وأدوات المطبخ والعفش أصنعها من علب الكباريت الفارغة، وأضع حجارة صغيرة تحتها كأنها طاولة وكراسي. أحببت صناعة اللعبة (العروسة) بنفسي وهي من (الشرايط). كنت أحضر عود خيزران بحجم اللعبة وأصنع الجسم واليدين وألف عليها الشرايط ليصبح جسدا” (ص 198).
أسلوب النجار جعل المدينة تسكن القلوب أكثر مما يسكنها الناس. كما يجعلك أسلوبها تعايش الحدث من دون ملل. فضلا عن أن قدرتها على التذكر تصنع حميمية بين القارئ وبين الحدث المسرود بتحليلات الكاتبة من حين إلى آخر: “لم تكن ولادة البنت مصدر سعادة لكثير من النساء والرجال، ليس في القدس فحسب، بل في مدن وقرى فلسطين، كأن عدم الترحيب بالمولودة الأنثى إرثٌ تناقلته الأجيال. وكان إذا ما سمع الجيران وأهل الحارة زغرودة تلعلع من الشبابيك يعرفون أن القادم (ولد) وإشارة واضحة على التحيّز للذكر منذ الطفولة”.
فضلا عن ذلك عجّ الكتاب بالكثير من الصور الدالة على المكتوب، والتي يندر أن نجدها في أي مصدر وثائقي آخر، لأنها استعيرت من خصوصيات الكاتبة وما تملكه من إرث يمسها، وقد تكون استعارت بعضها من قريناتها اللائي عايشن الحدث. ومن الأشياء التي شكلت تنويعا في أسلوب الكاتبة استحضارها كثيرا من الأشعار المتداولة والأغاني الشعبية السائدة في بيئة القدس وقراها، بحيث تتنوع استطلاعات القارئ بين تاريخ وأدب وذكريات وتحليلات وأشعار وأغانٍ وصور، فتتكامل الصورة على خير ما يكون، وتتشكل الفكرة على أوضح ما نحب، على أن الأمر لا يقتصر على التسجيل والجمع والحشد، بل هو محكوم لمبدأ التشكيل والانسجام والإعداد المتقن، بحيث تتحول القدس إلى نصّ حاضر لا إلى نصٍّ غائب.
د. نضال الشمالي