دفاتر «الأوتوغراف» تعبير عن مشاعر المحبة والصداقة !
وليد سليمان – في الفصل التاسع وتحت عنوان فرعي (أدب الاتوغراف) نقرأ من كتاب الإعلامية د. عايدة النجار ( بنات عمان أيام زمان ) بعض ما جاء فيه ومثال ذلك:
هل نسميه أدباً ؟ قد يكون كذلك فقد عبر عن قلم البنات وابداعهن الممزوج بالواقع والخيال مع خلطة بالمشاعر والعلاقات الإنسانية الخاصة … وقد برزت ظاهرة الأوتوغراف في المدارس في الخمسينيات بين الطالبات بشكل خاص كمنبر للتعبير عن مشاعر الصداقة والمحبة التي كانت تربط بنات المدرسة ‘ ببعضهن أو بالمعلمات ولم يكن ذلك الأدب النسائي معروفاً بين الطلاب الذكور … والاوتوغراف عبارة عن دفتر صغير أنيق حجمة يبلغ (10X15 سم ) وله غلاف كرتوني مقوى ، يأتي بألوان مختلفة ، الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء … وأوراقه الداخلية ملونة كقوس قزح وكانت الطالبات يشترينه من مكتبة الاستقلال الواقعة مقابل البريد ، أو من المكتبات الأخرى التي أخذت بالانتشار في عمان ، ومنها ( مكتبة بحوث) في شارع السلط ، واصبح الاوتوغراف متوفراً لأن له سوقاً تجارية مربحة ، وبدا كظاهرة محببة لدى أكثر البنات وخاصة قبل انتهاء السنة الدراسية ، موعد الوداع والفراق بين الزميلات والصديقات وقد حافظت بعض الطالبات على الأوتوغراف ، لأكثر من خمسين سنة ، تحن عند قراءة ما جاء بين السطور لأيام المدرسة في مرحلة هي الأجمل ، وساءني أنني لم أعثر على أوتوغرافي بين أدوات الماضي الورقية وبعد بحث مضن تمكنت من إيجاد دفتر الذكريات لدى فردوس زعيتر ، من خريجات أول دفعة للبنات من الثانوية (1950-1951) ظلت تحتفظ بما ضم من تعبيرات ومشاعر لأكثر بنات صفها ال(13) ولعدد من المعلمات وقد تنوعت الكتابات والتعبيرات بتنوع العلاقة بين البنات وأيضاً باختلاف أساليب الكتابة والقدرة على التعبير وبين الصفحات الملونة وجدت عالماً لبنات المدرسة ومشاعرهن في تلك السن المبكرة فكتبت لها المعلمة نعمت النابلسي تقول:
ما الحياة إلا بسمة جميلة وزورق يتهادى على صفحة الآمال وزهرة يافعة في رياض الشباب .. ( أول أكتوبر 1951)؟.
وظهرت شخصية المعلمة بشكل واضح فيما كتبته المعلمة فاطمة ملحس في الدفتر الصغير: ما أحوجنا إلى الذين يقرؤون ويتأملون واقتبست من كلام ( جبران ) كلاماً جميلاً ليست الحياة بسطحياتها بل بخفاياها … ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها … ولا الناس بوجوههم … بل بقلوبهم ( 4 – 3 – 1951 ) واقتبست المعلمة شهيرة الكيالي من قول ( الخيام ) ما يساعد على حب الحياة وإختارت الصفحة الصفراء لتكتب : لا تدع للآسى إليك سبيلا الهم في الفؤاد نزيلا واغتنمها فالعمر ليس طويلا. وعبرت عن مشاعر الصداقة ( 27) زميلة أو صديقة ، من بنات صفها وصفوف أخرى ، وكتب البعض منهن باللغة الانجليزية ، وكأنهن فخورات بقدرتهن على الكتابة بلغة أجنبية.
ومن البنات اللواتي أصبحن رائدات في التعليم كتبت دلال محمد أمين الشنقيطي ، ابنة أحد وزراء المعارف السابقين آنذاك وقد أصبحت زميلة لها في التعليم تقول : عرفتك من مدة تجاوزت الأربع سنين ، ولكني لم أختلط معك ولم أختبر أخلاقك تماماً ، إلا عندما زاملتك في مهنة التعليم ، فرأيتك كفراشة حالمة ذات أخلاق قيمة ، فراشة تدانت إلى الأرض …3 – 3 – 1953.
وتذكرت مديحة المدفعي ، الجيرة والصداقة أيام زمان لتسجل صورة المكان والعلاقة الإجتماعية 00 تذكرين يوم كنا نمرح ونلعب سوياً عندما كنا جارات؟ ألا تتذكرين سهراتنا الممتعة على فرندتنا المشرفة على الشارع ، نلهو ونمرح ونسمر تحت ضوء القمر الساطع … ونسمات عليلة تحمل في طياتها نجوى الطيور في أعشاشها وأنغام الموسيقى الهادئة المنبعثة من نادي عمان … أمامنا … إن كل هذا ما زلت أتذكره ، وسأتذكره مدى الحياة لأنها من أسعد أيام حياتي حتى الآن …( 27-3 -1951) .
ولأن بنات الصف يعرفن بعضهن جيداً ، فيبدو أن المرح وخفة الروح ، كانت إحدى الصفات المحببة لدى البنات كما عبرت كوثر الشاهد إذ تقول: … نعم يا صديقتي ، فلقد كنت لنا خلال عامين ، كالبلبل الطروب والشاعر الرقيق والأخت الحنون التي لا يرتاح لها بال حتى ترى كل زميلاتها فرحات مسرورات …!!(26-10-1950).
وأيضاً بدا هذا واضحاً في قول فريزة السعيد ، رحمها الله : لقد قضينا معاً سنين في المدرسة وكنت خلالها صديقة طيبة القلب نقية الوجدان ، لجميع زميلاتك ، تنسين المهموم همومه وأحزانه بأحاديثك الشيقة وروحك والسرور … (2-1-1951).
ان مشاعر الصديقات في سنين الدراسة ، تعبر عن العفوية والالتزام بروح المحبة والتقدير لبعضهن في سن كن يعتبرنه أجمل سنين الحياة ، وهي مرحلة الدراسة الثانوية في سن (المراهقة ) التي تبدو أنضج مما يعرف عنها وضم دفتر الطالبة صوت مديرة مدرسة سكنية بنت الحسين ، حورية الزعيم ، بعد أن أصبحت فردوس معلمة تعمل تحت إدارتها ، وكتبت بتاريخ ( 3-3-1953) فكنت أنت تلك الصديقة التي عثرت عليها بعد أن قضيت الأربعين عاماً على تخفيف آلامها ، فكوني الأخت الصدوقة والضالة المنشودة ، وكوني عند حسن ظني بك ودومي فرحة هانئة مدى الحياة. فالصداقة كانت هامة لا تحتاجها الطالبات بين بعض فقط ، بل بين المديرة والمعلمات ، اللواتي بينهن الكثير مما يربطهن ويفرقهن أيضاً الدفتر الأزرق ، الذي ألصقته صاحبته أكثر من مرة خوفاً من الإهتراء لتحافظ على جزء من حياة شابة ومرحلة جميلة كما تصفها بنفسها: تلك المرحلة بلا شك هي أجمل مراحل حياتي ، وكيف أنسى حركات الشقاوة التي كنت أقوم بها بعفوية ودون ضوابط جامدة لم تقتصر الكتابات التذكارية بين الطالبات على زميلات الصف الواحد ، وكانت صاحبة الأوتوغراف تطلب من الطالبات في صفوف أعلى أو أدنى للكتابة لها ، وتنتقي صاحبة الأوتوغراف رموزاً قيادية في المدرسة ، لا فتتاحه كما تحتفظ برأي الصديقات ومشاعرهن نحوها ، لتكون بعد التخرج ذاكرة غنية ووثيقة تاريخية. ووجدت طالبة سابقة أخرى حريصة على ذاكرة المدرسة والمكان هي نعمت البندقجي ، الطالبة في الصف الثانوي الثاني في منتصف الخمسينيات حافظت على الأوتوغراف الخاص بها أيضاً ، وتتذكر بنات صفها الذي يتكون من (47) تلميذة وقد قدمت أوتوغرافها بجملة قصيرة هذه منارة الصداقة التي تحملنها بأياديكن ، وكتبت لها (17) طالبة واختارتني وكنت في الصف الخامس ثانوي ، ( المترك) لأكتب كلمة الإفتتاح بأسلوب خاص كما يبدو ، وكان اختيارها لي كوني ناشطة في المدرسة وكثيراً ما ألقيت كلمات الصباح الوطنية أمام المدرسة ، في طابور الصباح وكتبت لها : إذا كان لا بد من الكتابة … وإفتتاح متحفك هذا .. الذي سيدفئك غداً من قرص الشتاء … عندما تصطلين على نار الذكرى .. فأبدأ بالوداع فروحك التي أعجب بها وابتسامتك البريئة … وقلبك الكبير …وأخلاقك الحميدة … سأناديها غداً … كذا الحياة أيتها الصديقة مسرح نمثل عليه … نلتقي في مقطوعات تمثيلية ثم نختفي … فانا وأنت ونحن الزميلات في حضن المدرسة سنفترق غدا ، مصافحات بعضنا ، فما عسانا قائلات في نهاية هذه السنة ، فهاتي يدك لنتصافح للوداع … ولكن سنلتقي في درب الحياة ، لنعمل معاً ، ونرضي وطننا المقدس ، فسأحتفظ بك وسأربطك مع سلسلتي الذهبية ، فاذكريني (إن أردت) (عايدة النجار 3/3/1954) ولا أعرف لماذا استعملت هذه النقاط الكثيرة في النص ، ولعل ذلك كان كزخرفة؟ كتبت هذا ولم أكن أدري أنني سألتقي بها بعد حوالي نصف قرن من الزمن لأستعمل الأوتوغراف كمرجع هام ، ووثيقة أرجع فيها للمدرسة في كتابي هذا. وتوالت الكتابات العفوية الأدبية الجميلة للطالبة نعمت من بنات صفها وصفوف أخرى لتعبر عن المشاعر نحوها اختارت آية عادل الطاهر اللون الأخضر من أوراق الأوتوغراف لتكتب: مسكت أوتوغرافك وأنا متحيرة ماذا اكتب لك ، أأصف تلك الفتاة المرحة النشيطة الذكية التي عندما عرفتها ، عرفت فيها الأخلاق الحميدة والخصال المجيدة والنبوغ المبكر والطالبة المجدة، وقد زينت آية الطاهر الصفحة) بصورة لفاتن حمامة( كرمز للإعجاب بها الذي كانت البنات يعبرن عنه للممثلات ونجوم السينما وأثنت زهرة زعيتر على أخلاق الصديقة : جمعتنا الأقدار وربطتنا المودة برباط وثيق … فعرفتك خلال مرحلتي الثانوية ، عرفت أكثر مما أعرف نفسي فأحببتك … لكني أحببت فيك أكثر الصفات الحميدة … ولحقتها وجدان زعيتر لتحرص على الذكرى: اذكريني واذكري صديقاتك اللواتي قضيت معهن شطراً من الحياة ، واذكريني كما أذكرك دائماً وثبتت صورة عصفور صغير في أسفل الصفحة باللون الأحمر والأصفر ، فروح البراءة والشاعرية ، كانت واضحة في كتابات البنات في سن المراهقة ومجدت الطالبات الأخلاق فكتبت فاطمة أبو زهرة ، ما دفعني في تأدية عملي هو نعمت وأخلاقها الحسنة الحميدة المتحلية بالصدق والوفاء والغنية بعدم الغيبة وهذا أهم شيء في نفسي … أما خيرية كنعان فكتبت لها جملة معبرة إن للحق جذوة تخبو حبنا ، ولكنها تضيء أحيانا وظلت هذه الكلمة صادقة ودافئة إذ استمرت الصداقة بينهما بعد المدرسة وفي دروب العمل ، معاً في ( نادي صديقات الكتاب ) الذي أسس بعد عقدين من الزمن عام ( 1977) بمبادرة من خيرية ونعمت، وقد ظلت العلاقة المدرسية تجمعهما في نشاطات المجتمع المدني وبشكل خاص ما يحافظ على النشاط العقلي وتشجيع المرأة على القراءة بالإضافة إلى ذلك ربطت العلاقة الشخصية والإجتماعية الصحية الصديقتين بالعمل المنتج دون تنافس أو غيرة أو حسد ، وكأنهن مخلصات لما تعاهدن عليه أيام زمان ، أيام مدرسة زين الشرف وكتبت انتصار الفرخ تؤكد على الصداقة : ما أجمل الصداقة المتمثلة بشخصك ، وما أحوجنا لمثل هذا النوع من الصديقات ، فأنت نعمة إلهية أسبغ الله عليك الجد والنشاط والكمال … ولم تكن الصديقات يلاحظن المغالاة في التعبير ، لأن المشاعر كانت مخلصة وأكدت لنعمت على ذلك صديقة أخرى من صفها سميرة النجار وكتبت بحكمة الكبار : إعلمي يا نعمت أن من رفع رأسه إتضع ومن إتضع إرتفع ، إني أقول لكل من تريد أن تعرف معنى الحياة أن تنظر إلى نعمت الباسمة صديقة الكبير والصغير ، وإنه ليسرني أن أكون صديقتك وكتبت المرحومة اعتدال الكيلاني التي كانت تتميز بالنشاط في الحركة الطلابية وتتمتع بالروح الوطنية منذ مطلع شبابها جاء قولها : كوني صريحة تدافعين عن حريتك وإن كنت على حق فلا حاجة لرفع صوتك … فالوطنية الصحيحة تعمل كثيراً ولا تعلن عن نفسها … وأخيراً اتمنى لك حياة سعيدة ناجحة وكانت الطالبات يرين في الصديقات ما لا يراه الغير ، ورأت سلوى نور الدين التواضع فكتبت : من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزناً ، وأن ينظر إلى من هو فوق من الناس نظرة الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق ، وأن من يخطئ تقدير قيمته مستعلياً خير ممن يخطئ في تقديرها متدلياً … لذلك يا نعمت ، انظري إلى نفسك النظرة التي تستحقيها ولا تنقصيها قدرها. كثيرات كن يرسمن أهدافاً وكما يبدو في نصيحة نوال فؤاد آغا تقول: فإن كان هناك ما أكتبه إليك فعن هدفنا في الحياة … والمهم أن نصل إلى هذا الهدف ، ولكن أن نكافح من أجله …. ولعل ما كتبته مي عوران يؤكد روح سن الشباب التي تتحدى الصعاب: إن الحياة كلها مصاعب ومتاعب ، وجهاد وكفاح من أجل نيل الأماني والآمال والحرية قبل كل شيء لأنها صعبة المنال خصوصاً لمن في مثل سننا ، فعلينا أن نعمل ونجاهد ونغذي بأرواحنا من أجل نيلها وتبدو هذه الروح الرافضة لليأس واضحة في نصيحة صديقتها نوال وهبة: لا تجعلي اليأس والسأم يطرق بابك ، بل فكري قبل البدء بالعمل لأن نهاية ذلك تكون مأساة عليك، ولذلك إستقبلي مصاعب الحياة مهما كانت صعبة أم حقيقية بثغرك الباسم … ولم تكن نائلة الرشدان تعرف أنها ستصبح يوماً شخصية سياسية وعضواً في مجلس الأعيان الأردني ، بعد عقود من الزمن فكتبت في سن مبكرة وهي في الصف ( الثانوي الثاني أ ) عام 1954 شعراً وزينته برسوم وورود ومنه مثلا :
المستحيل أملنا بالعلم القاصي دنا
إن وعيناه دنا فالحق والخير لنا
وقوة العلم هي الحصن لمن تحصنا .