رحلة وجدانيّة تروي حكايات المدينة المقدسة وأصحابها وعمارتها وأزهارها
في كتابها «القدس والبنت الشلبية»، تصف لنا الكاتبة والباحثة المقدسية الدكتورة عايدة النجار، مدينة القدس الشريف بأدق تفاصيلها في فترة ما قبل النكبة عام 1948م، مسلطة الأضواء على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما أصاب الوطن من بلاء.
وهي تؤرِّخ في هذا الكتاب الصادر عن دار (السلوى للدراسات والنشر، عمان)، والواقع في (376 صفحة، من القطع الكبير)، لجانب غير مطروق من هُويّة القدس، عبر قراءة نقديّة تضيء لنا بعضاً مما ذهبت إليه المؤلِّفة بأسلوب سردي. حيث تروي د. النجار- عبر أربعة عشر فصلاً ـ تفاصيل الحياة في المدينة بجمالها ومفارقاتها وغناها ومأساتها وواقعها الحي الملموس والمشاهد، مع تركيز شديد على دور المرأة الفلسطينية وحياتها اليومية، حيث خصصت أربعة فصول للحديث عن القدس عامة، قبل أن تدخل في حديث مفصل عن دور المرأة المقدسية ومشاركتها الرجل في مناحي الحياة المختلفة. وقد كتب على الصفحة الداخلية التي تسبق المحتويات التوصيف التالي لمادة الكتاب: (المرأة/ التاريخ الاجتماعي/ القدس/ التاريخ).
فصول من سيرة البنت الجميلة
تنقل لنا «البنت الشلبية» صوراً من حياة أهل المدينة الممتزجين بمدينتهم والحافظين لعراقتها وخصوصيتها، حيث (في القدس يستنشق الناس هواء ممزوجاً بعبق التاريخ وتحتضن العين والقلب حضارات متعددة الجمال والأنماط).
ويتناول الكتاب العلاقة بين الروح والمكان، الذي تكونت فيه الروح، من خلال سرد حكاية «البنت الشلبية». وهو يغطي الفترة الزمنية (من أوائل عشرينيات القرن العشرين وحتى عام 1948م)، أي منذ الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى وقوع النكبة الفلسطينية.
وتعني كلمة «الشلبية» في اللهجة الفلسطينية (البنت الجميلة)، وهي من مفردات أهل القدس الذين يتميزون باستعمال الكلمة أكثر من غيرهم من سكان المدن الفلسطينية.
وقد اختارت المؤلِّفة أن تبني كتابها على عنصرين هما السيرة الذاتية والتاريخ، ما طبع لغة الكتاب بالحرارة في التفكير والتعبير، فالباحثة تعتمد روايات تاريخية موثقة لكنها تسند هذه الروايات التاريخية بتجارب حارة مرت بها منذ أيام طفولتها في عائلة موسرة في قرية (لفتا) إلى خروجها مع عائلتها قسراً إلى القدس، ومتابعة رحلة الحياة فيها لتكون شاهدة على حياة البنت «الشلبية» في المدينة وتطور الحركة النسوية فيها، من خلال ما نجم من تفاعلات هائلة بفعل النكبة الفلسطينية.
تقول د. النجار في مقدمتها للكتاب: (.. إلا أن الكتابات عن الحياة الاجتماعية اليومية وتفاعلاتها وتداخلاتها مع العادات والتقاليد والعوامل الأخرى، وخاصة «الناس العاديين» ودورهم في «صنع المدينة» أو أكنافها لم تحظ بالاهتمام الكافي، ما يجعل هذا الكتاب معيناً خصباً لرصد كل تجليات هذه الحياة اليومية بما فيها من تفاصيل ومن مؤشرات على الصراع بين القديم والجديد، ومن انتصار للجديد في أغلب الحالات. وبما فيها من تعبير عن المستوى الحضاري الذي وصل إليه الإنسان المقدسي بخاصة والفلسطيني بعامة في تلك الفترة التي سبقت انهيار المجتمع الفلسطيني، جرّاء الغزوة الصهيونية التي وصلت ذروتها في النكبة الكبرى).
ذاكرة ندية بذكريات عذبة
تقف د. النجار في عملها هذا على مكانة المدينة لديها، من خلال تناولها تفاصيل الحياة اليومية في هذا المكان، بوصفها مقدسية. فما تكاد تستذكر حدثاً أو واقعة أو مناسبة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو فنية وقعت في ذلك المكان، سواء معها أو مع غيرها، حتى تقفز إلى ذاكرتها تفاصيل ذاك الحدث فتسترجعه كأنه حصل البارحة، ذلك أن ذاكرتها لا تزال ندية بذكرياته رغم بعدها عنها منذ زمن ليس بالقصير.
وبشاعرية عالية المستوى تروي لنا د. النجار، سيرة البيوت والأزقة والحارات والحجارة والنباتات والطيور والأزهار والورد في شرفات البيوت، في المدينة العتيقة داخل الأسوار.
وثمة في الكتاب وصف اجتماعي لأفراح أهالي المكان، وسهراتهم الرمضانية، وسهرات ليلة العيد، وعادات الخطوبة والزواج عندهم، وأثواب النساء المطرزة بحرير أخاذ، وأغانيهم في المناسبات الاجتماعية المتنوعة. وهناك صور ووصف لكيفية استقبالهم مولوداً جديداً، وردود أفعالهم إزاء هذا المولود: ذكراً أكان أم أنثى.
وتستهل المؤلِّفة كتابها، بوصف جذاب للمدينة المقدسة.. بداية من جمال مبانيها الحجرية المتعالية ذات الطابع الأوروبي الممزوج بروح الفن المعماري الإسلامي من منتصف القرن التاسع عشر، ذاكرةً أنواع الحجارة المستخدمة في البناء كما يسميها المقدسيون، الحجر «الطبز»، و«الملطش»، و«المسمسم» و«الأملس». مشيرة إلى تطور أشكال زينة البيوت، مع تطور صناعات ذات أبعاد فنية مثل الخزف والفخار.
وتُذكرنا د. النجار بأسماء المهرة والصناع الذين تخصصوا في الحرف المتعلقة ببناء البيوت أو تحصينها وتزيينها. وتخبرنا عن التحولات التي طرأت على البيت المقدسي من ناحية المرافق العامة حيث دخل «البانيو» بيوتهم، وكذلك الحمامات «الإفرنجية»، التي كان يتنافس على بيعها عدد من أصحاب المحلات خارج سور المدينة القديمة. التي كانت معروفة بحماماتها الشرقية والتي كانت تخدم النساء والرجال. وتحكي المؤلِّفة عن طقوس الحمام، التي كانت تمارسها النساء من حمل «البقجة» المزخرفة و«الليفة» والصابون النابلسي و«القبقاب» الدمشقي.
سر زهرة فدوى طوقان
يجد القارئ لفصول الكتاب استرجاعاً مشوقاً لصور من عناصر المكان ومفرداته، من بشر وكائنات طبيعية وحجر. حيث تصف د. النجار جمال الطبيعة في المدينة، وجمال أزهارها، راوية بعض القصص القديمة كما كانت تحكيها الجدة.. من تلك القصص: قصة زهرة «الميرامية»، التي اشتق اسمها من (مريم العذراء)، حيث إنها في إحدى نزهاتها شعرت بالضيق من شدة الحر فقطفت بعض أوراق «الميرامية» لتجفف بها عرقها، ومنذ ذلك الحين اكتسبت تلك الزهرة رائحتها الزكية.
وهنا تكشف لنا د. النجار كيف أن زهرة قدمها معجب للشاعرة فدوى طوقان في بداية حياتها المدرسية قضت على مستقبلها التعليمي. مضيفة: (ستجد طوقان لاحقاً في مدينة القدس وانفتاحها مراحاً لها من جو نابلس القاتم والمحافظ).
وتنتقل بنا (المؤلِّفة- الراوية) للحديث عن قصور المقادسة أيام زمان، وأشهرها قصر مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني، الذي بناه والده الشيخ طاهر الحسيني، وهو من أول البيوت المقدسية التي بدأ أهل القدس تشييدها خارج أسوار البلدة القديمة في أوساط القرن التاسع عشر، وهو مكون من طابق واحد يظهر فيه تميز المعمار الفني العربي والإسلامي. وقد أصبح هذا البيت محطة للأدباء، والمثقفين، والشخصيات السياسية بعدما استأجره (جورج أنطونيوس) صديق المفتي، صاحب كتاب (يقظة العرب) 1938م.
«البنت الشلبية» ولقب كوكب الشرق..
تولي المؤلِّفة في كتابها أهمية لدور الصحافة وتاريخها في فلسطين، والذي يرجع إلى مطلع القرن العشرين، مشيرة إلى أن الصحافة لعبت دوراً هاماً كمنبر سياسي وثقافي واجتماعي، وكوسيلة للتعبير عن الرأي العام والرأي المعارض للسلطة البريطانية، ومن أبرز تلك الصحف جريدة «الكرمل» 1908م، وجريدة «فلسطين» 1911م.
وتسلط د. النجار الضوء على مكانة ودور المرأة الفلسطينية الريادي في عالم الصحافة، منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، مثل: ماري صروف شحادة، وساذج نصار التي أسست زاوية في جريدة «الكرمل» سمّتها (صحيفة النساء)، عالجت فيها الموضوعات السياسية والاجتماعية وقضايا المرأة بأقلام النساء والرجال على حد سواء.
وتذكر من الأديبات كلثوم عودة التي ترجمت العديد من المؤلفات من الروسية للعربية وبالعكس. ومن مدينة الناصرة الأديبة ميّ زيادة البنت السمراء الشلبية، التي عرفها المثقفون اثر افتتاحها الصالون الأدبي في القاهرة والذي جذب أبرز المثقفين مثل عباس محمود العقاد وطه حسين. ومن نابلس الشاعرة فدوى طوقان، التي كانت تنظم الشعر منذ نعومة أظافرها.
وتكمل المؤلِّفة وصفها لما كانت القدس عليه.. من اهتمام أهل القدس بالموسيقا وتعلم أولادهم وبناتهم فنونها في المدارس، والتي اشتملت الآلات الغربية والشعبية.
وتروي لنا «البنت الشلبية» كيف أن سيدة فلسطينية من حيفا تدعى «أم فؤاد» كان لها الفضل في إطلاق لقب «كوكب الشرق» على أم كلثوم عام 1932م، وذلك بعد أن أطربتها السيدة أم كلثوم وهي تغني في حيفا فقالت لها بإعجاب: (أنت كوكب الشرق بأكمله..).
ويجد القارئ في هذا الكتاب العشرات من الصور، التي تبرز المشهد العمراني في القدس ممثلاً ببعض الأماكن المقدسة، وبعض الأبنية المميزة الأثرية منها أو المشيدة في العصر الحديث، وبالصور التي تخص رجالاً ونساء وأطفالاً لهم علاقة بالقدس أو عاشوا فيها في فترات مختلفة، وكذلك الصور التي تتعلق بالأزياء الشعبية والحديثة، وهو ما يضيف إلى الكتاب بعداً توثيقيّاً مهمّاً لما للصورة من قدرة على الإقناع، ولما تشكّله من دليل لا يقبل الشك في طبيعة المكان وأهله، وفي تاريخ هذا المكان الذي كان من سوء حظّه أنه مازال يتعرض لأشرس عملية تزوير لتاريخه ولتراثه.
أوس داوود يعقوب