في كتابها الأخير «عزوز يغنّي للحب: قصص فلسطينية من ألف قصة وقصة»، حلّقت عايدة النجار في سماء فلسطين. تنقّلت بين قراها وروابيها وبيّاراتها وبساتينها. تحدثت عن أزهارها وأعشابها وزيتونها وزعترها وترابها وروائحها كما لا يتحدث مزارع عاش عمره تحت وهج الشمس، يفلح ويزرع، وقد لا يحصد، لكنه لا يفقد الأمل.
مشت في شوارع القدس على الحجارة العتيقة، تأملت الجدران الناطقة بأمجاد الوطن، وعادت أدراجها إلى التاريخ البعيد. وفجأة، نراها تعود إلينا، لتروي لنا حكايات المعتقلين في السجون، والمنكوبين في كل زمان أمام بيوتهم المهدّمة، والأمهات يهاجمن جنود المحتلّ لتخليص أبنائهنّ من القبضة الشرسة.
وفي قصص أخرى، تأخذنا معها على جناح الواقع المذهل والرائع -وكأنه الخيال- للمشاركة في الأعراس، أو للعزاء في المآتم ، أو للسلام على المغربي العائد ليبحث عن بيته في القدس، أو للحوار مع السائحة الأميركية التي جاءت لتزور وطن خطيبها رضوان، أو للتعرّف على «نفيسة» التي هاجر زوجها إلى البرازيل، وعاشت عمرها تربّي أطفالها من عملها على ماكينة الخياطة التي كان أهداها إليها يوماً قبل أن يُهاجر. «نفيسة» ما فقدت الأمل بعودته، بل كتبت إليه تبشره بزفاف ابنته «نبيلة» وتخبره أن ثوب العروس الأبيض خاطته ماهرات على الماكينة نفسها، هديته النفيسة. وهنا تشارك الكاتبة بطلة القصة تفاؤلها العجيب، فلا تنسى أن تختم القصة بأغنية الزفة: «واجب علينا واجب».
وهكذا، روت النجار عشرات القصص على أجنحة القلب والذاكرة والعين الساهرة، كأن فلسطين كلها: شعباً وقضيةً وتاريخاً ونضالاً ومجتمعاً وعاداتٍ وتقاليد، على تلك الصفحات. تلك هي الميزة الأولى للكتاب. وسرعان ما يكتشف القارئ وِحدةً في الزمان أيضاً، وليس في المكان وحده، وهذه الوحدة الزمنية، بين الحاضر والماضي والمستقبل ، أضافت الكثير إلى معاني الكلمة العابقة بالتاريخ: كلمة «فلسطين». تلك هي الميزة الثانية.
ولو طرح المرء سؤالاً: أين روعة الكتاب؟ لكان الجواب إن روعته في كونه «قصة فلسطين»، فيه من التشويق الشيء الكثير، رغم أنه يتحدث عما هو معروف، وليس عن أسرار لا تُكتشف إلا في نهاية القصة. تلك هي الميزة الثالثة.
ينتهي القارئ ليكتشف أنه عاش حقاً مع شعب فلسطين على أرضه المحتلة، ومع تفاصيل حياته اليومية. كثير من المشاهد الحية تتحول إلى قصص. وهنا السؤال: هل المشهد قصة؟ أو ربما السؤال الأفضل: كيف يتحوّل المشهد أو الحكاية المروية إلى قصة أدبية؟
هذه المجموعة محاولة جريئة من الكاتبة التي تخوض ميدان القصة القصيرة للمرة الأولى، وهي ما كان ممكناً لها أن تبدع في كل قصة من قصصها الإحدى والستين، ففي مثل هذه المحاولة تناقض مع الهدف الأسمى للكتاب، ألا وهو رواية «قصة فلسطين» بأمانة. وإزاء هذا الهدف كان لا بد للواقع -كما هو- أن يسيطر، وكان لا بد للكاتبة أن ترضخ للواقع. وكان لا بد من أن يظهر تفاوت بين القصص.
مع ذلك، أثبتت الكاتبة براعتها الأدبية في العديد من قصص المجموعة، وإذ بنا أمام قصة قصيرة رائعة فكرة ومعنى ومبنى، وقد صيغت بأسلوب يوحي بأعماقٍ وأبعادٍ تفوق حجم الصفحة أو الصفحتين بكثير. وتلك هي الميزة الرابعة والأهم. وهنا بعض الأمثلة: «ماكينة الخياطة»؛ «صبر أبو سليم»؛ «انتظار»؛ «خليلي يا عنب»؛ «الرقم 299»؛ «أنا ونفسي خارج المكان»؛ «دمعة سعد»؛ «البحث عن حارة المغاربة»؛ «ذات فجر في الخليل». وفي هذه القصة الأخيرة، توقفت الكاتبة عند الحدث التاريخي، يوم هاجمَ الإرهابي «باروخ غولدمان» بنيرانه المصلّين في الحرم الإيراهيمي، فتمكنت من تحويل الحدث الإجرامي إلى قطعة أدبية تحملنا إلى الخليل وأهلها، وعاداتهم الرمضانية، وإيمانهم وتقواهم ودعائهم. أما الذروة فلم تكن لحظةَ أطلق الإرهابي رشاشه وحصد المصلّين، بل لحظة استفاقَ الصغير أحمد، ابن الرابعة، من نومه، وهو من كان وعده أبوه، أبو أسعد، بأن يأخذه معه إلى المسجد ليصلّي في ذلك الصباح، فنام الصغير وهو يغني: «سأصلّي الفجر في الجامع.. سأصلّي الفجر في الجامع». وهكذا تختتم عايدة النجار قصتها الأخيرة، بالإيمان والأمل على لسان الصغير أحمد، فتقول:
«استيقظ الصغير من نومه العميق:
– أين أبي؟ لماذا لم يأخذني معه لأصلّي في المسجد؟
بكى الصغير وتمنى لو يأخذه للصلاة في الفجر القادم».
وهناك فجرٌ قادم.
بيان نويهض الحوت