الباحثة والكاتبة د. عايدة النجار صاحبة كُتب السِّير الشهيرة « بنات عمان أيام زمان « ثم « البنت الشلبية في القدس « ها هي تصدر هذه الأيام كتاب جديد في عمان بعنوان :» عزوز يغني للحب …» ولكنه من نوع آخر في فن الابداع الادبي « قصص وحكايات « عن الأرض المحتلة فلسطين وشعبها الباسل وأشياء الحياة هناك التي تؤكد إنسانيتها وحقها في الحياة على تراب وطنها العريق منذ آلاف السنين وملايين الأيام والذكريات .

فالشجر هناك على الأرض المقدسة يقاوم الجلادين والوحوش البشرية .. حتى القبور كذلك ترفض الهدم والمحاء ففيها أرواح الامهات والاجداد منذ مئات الاعوام والافراح .. وكذلك مراجيح الاطفال وطائراتهم الورقية تغني ودفاتر مدارسهم وهوياتهم المحفورة في القلوب تغني للحرية والاستقلال والكرامة ضد القمع والسجن والسواد .

حتى الحيوانات الأليفة ترفض إلا ان تتنشق هواء الحرية والحقول والهواء الفلسطيني كالاغنام والقطط والخيول حتى العصافير … وهاكم قصة الكناري العصفور  عزوز كما روتها المؤلفة في كتابها :

الكناري عزوز
_ سألوه :
_ ما هذا القفص الذي يسكن فيه كناري أصفر وحيد تحمله أينما رحلت ؟
_ هذا صديقي « عزوز « أصبح بلا بيت وعائلة , وكان سعيداً قبل المجزرة .تغريده في الدكان كان يجمع الأولاد يحملون الألوان من بذر الكتان مكافأة لغنائه الشجي . عزوز حزين لفراق الحبيبة ذات الرداء الأحمر , التي قاسمته قصراً من هواء ونور ..    
مسح الدمع وقال :
قطعوا رؤوس أصدقائه الطيور , وظل يذرف الدمع على فراق الحبيبة , يزقزق من لوعة الشوق . تعطلت الحنجرة وبح الصوت الذي كان يطرب جنين . كناريّ الأصفر كان الأسعد بين الطيور , حزين اليوم لأنه لم يستطع إنقاذ الحبيبة ،رغم أنه فداها بإحدى الجناحين . خاف من الموت واختبأ تحت حجر لا شمس ولا هواء حوله تسمح له بالغناء . عاد الى المكان المحروق يبحث عن جناحه المفقود وعن أطفال الحارة سعيد وحسام الذين احترقوا مع طيور شواها الجلاد.
قالوا :
_ إذن … أنت صاحب « جنة الطيور « محل بيع العصافير قبل مذبحة جنين ؟
_ نعم … هدموا بيتي وقتلوا أطفالي وحرقوا عصافيري . أتجول مع صديقي عزوز نبحث عمن تبقي خوفا من الغربان . نبحث عن المكان لنعيش من جديد في بيت من هواء وحب ونور . صفق العاشق بجناحه الوحيد وحاول الطيران وغنى لأول مرة منذ زمن بعيد , بصوت أزرق مسموع .
ولم تنس المؤلفة نباتات أرضنا الفلسطينية الحزينة التي لا تنتشي إلا برائحة وهواء وسماء واصحابها العرب فقد أوردت الكاتبة عايدة النجار عشرات من هذه النباتات الوطنية عبر حكاياتها مثل :الزيتون والغار والبطم والسريس والقمح والبرتقال والليمون والدراق واللوز والخوخ والخس والسلق والسمسم والنعنع والنخيل والقرنفل والجوري والتين والعبق والصبر والياسمين والفل والبندورة , والتوت الأرضي والحنون الأحمر , والخبيزة والعكوب والخرفيش والزعتر والرمان .والميرمية التي ارتبطت ببعض التراث الفلسطيني ومثال ذلك :

مريم ..والميرمية
ونقرأ هنا قصة بعنوان « عن الميرامية سأحكي « من كتاب المؤلفة النجار:
قالت الجدة .
_ سأحكي لك يا غيث عن الميرامية التي تُحب رائحتها وطعمها وتلح على شُربها في الشتاء كما حكتها لي ستي أيام زمان . كنا نسرح في الجبال لقطف الميرامية قبل أن يمنعنا الجلاد من نبات كان طعاماً ودواءً لنا في فردوسنا المفقود
_ ففي إحدى رحلات مريم العذراء للتنزه في البستان الأخضر الفواح , تعبت وجلست لتستريح على حجر ابيض نظيف . تزاحمت النباتات تحت قدميها لتحميها من لفحة هواء . قطفت أوراقا خضراء طرية لامست ساقيها وكاحليها النحيلين ومسحت بها عرقها المتصبب على الجبين والخدين .
فاحت رائحة زكية تحمل الشفاء  من الألم والعناء .
استراحت السيدة وابتسمت للحياة .
سعد البُستان وحرك مملكته البهية بالفرح . غنت الأشجار للنبتة التي أصبح إسمها « مريمية « وذاع صيتها وانتشرت رائحتها الزكية في كل مكان حتى وصلت إلى أعالي السماء.
وفي قصص وحكايات الكتاب هذا والتي جاء سردها بشكل فني ابداعي حيث اللقطات الانسانية الروحانية السريعة والشاعرية أيضاً فقد لاحظنا انها قصص محملة بالكثير من الصمود الانساني وكفاحه وآماله التي ليس لها حد مهما بلغت الآلام والانكسارات والإذلالات من سالب ومغتصب الأرض .وفي نظرة على مناطق وأماكن واحداث هذه الحكايات فقد قصدت المؤلفة انها ليست لمكان معين بل لكل بقاع وتراب الوطن الذي يعاني كله لأنه جسم ووطن واحد لشعب من عائلة ودم واحد مثل : سلوان والقدس وحيفا وجنين وغزه والخليل وبيت لاهيا ولفتا ورام الله ومخيم جنين وبلعا  ودير الغصون والشيخ جراح وبيت لحم وعين كارم وشعفاط …الخ. وفي قصة رحلة مدرسية رغم ان الرحلات قد تستغرق يوماً كاملاً فان الكاتبة أرادت من هذه الرحلة الفكرة الجوهرية وهي عدم الاستسلام للافكار الهدامة وغسيل الدماغ .. لأن الاطفال مهما كانوا صغاراً يعرفون بحواسهم ومشاعرهم وجيناتهم ان هذه الأرض العربية أرضهم .

رحلة ٌ مدرسية
سار الطلاب وراء المعلم الجليل في يوم ابتسمت فيه شمس الضحى . ساعته الذهبية معلقة على الصدر العريض يرتكز على عصاه الخشبية . كل يحمل كيساً صغيراً من صنع الأمهات فيه زيت وزعتر وجبن وحبة برتقال ومطرة ماء . أتوا من زمن بعيد . ضلوا الطريق وتاهوا بين الواقع والخيال في رحلة درس الأرض والإنسان . سألوا قاطع الطريق .
_ أين نحن , دلنا على الطريق ؟
_ أنتم في المستوطنات ولن تستطيعوا مواصلة الطريق من بيت لحم إلى القدس ولفتا وعين كارم وشعفاط . أمامكم عسكر ومعابر مقفولة ومئات الألاف  من المخدوعين القادمين إلى بلاد « السمن والعسل « يسكنون التلال والسهول والجبال في كل مكان .
قال جبرا :
_ هذا كان فردوسنا وحلمنا السعيد . هناك كنا نجلس تحت شجرة زعرور نستريح في كهف يحمينا من دغدغة شمس الوطن الحبيب في رحلة إلى القدس نمرح في التلال والسهول والجبال .
مشى الأولاد وتسلقوا الجدران بحثاً عن المكان ورفعوا الصوت ينشدون .
_ بلادي .. بلادي .. بلادي .
قال المعلم :
رددوا معي :
موطني … موطني …
قال الجلاد :
_هذا كان أيام زمان . أدخلوا الصفوف  لتحتفلوا معنا   بالمؤسسين , وامشوا إلى المتاحف لتتعلموا التراث الجديد والتاريخ كما نريد , وغنوا معنا المزامير وانسوا  تاريخكم العتيق !!!!!.
لم يذعُن أولاد القدس ولا الجليل , وأنشدوا أناشيد الأجداد في رحلتهم المدرسية إلى القدس للبحث عن الهوية :

موطني …             موطني …
الدكتورة عايدة النجار المستشارة في قضايا الاعلام والتنمية في حكاياتها تلك والتي بلغت نحو «60 « قصة مؤثرة جمالياً وإنسانيا ووطنياً واجتماعياً وسياسياً أيضاً جعلتنا نعيش مفردات الحياة اليومية الصعبة والقاسية في الأرض المحتلة رغم ان الانسان هناك أيضاً ما زال مليئاً بالآمال والطموح وحب الحياة على أرضه المعطاء في حضارتها وتاريخها وأسلوب عيشها الشعبي .. فقد لمسنا هذا العشق لمفردات وأشياء البقاء رغم السجون المعتقلات وأسوار الفصل العنصري والدبابات والحواجز والعساكر والطائرات التي ترمي أهل غزة بالفسفور الأبيض والرصاص المصبوب .. فهناك ما زال الشعب يتعايش مع مفرداته العربية الضاربة في عراقتها كحبه لشجر الزيتون والنجوم والشمس والبراري والحواكير ومحبي السلام الاجانب  والعاب الاطفال وثياب العيد والشاي والقهوة وامشاط الشعر وماكينات الخياطة الشعبية والطين والحجارة وخبز الطابون وحكايات الجدات الساحرة والمؤثرة في دلالاتها الانسانية :

الحصان العربي
وفي هذه القصة للمؤلفة نقرأ ما يلي :
تعوّد غيث ابن الثالثة لف ذراعه الطرية حول خصر جدته فطوم وهو يحتضنها قبل النوم , يطلب منها بلدغة خفيفة : احكيلي حكاية « ياثتي « , ياستي . حكت وأعادت الحكايا مرارا حتى نفذ مخزون الذاكرة العتيقة التي تختتمها بقصة « الشاطر حسن « حفطتها طفلة قبل الهجرة والرحيل من فلسطين .
ظل يلح عليها أن تحكي قصته المفضلة :
_ إحكيلي كيف ركبت على الحصان ؟.
قالت :
_ كان يا ما كان إلا هلحصان في بيت أبوي في لفتا أيام زمان . كان للحصان الأبيض ظهراً ناعماً قوياً وخصراً نحيلاً , له غرة فوق عينين كحيلتين . كان أبوي يحبه ويحميه من عين الحاسدين بقلادة من لون السماء يلفها حول عنقه الطويل . كان صهوة ترفع أبوي على عرش السلاطين .
قال غيث ما إسمه ؟:
_ أسمه « العربي « لأنه أصيل .
كنا نحبه ونقبل جبهته قبل أن يحمل أبوي للصلاة في القدس الشريف . وفي يوم من الأيام مرض أبوي قبل الممات , وأوصانا بإطعام حصانه أحسن الحشيش . أضرب الحصان عن الطعام وهزل جسمه الجميل وظل عل الأرض دون حراك يبكي حتى لحق بالصديق .
_ ليش مات يا ثتي ؟
_لأنه حزن عل موت الحبيب .
_ وبعدين , هجم غول مخيف علينا وأخذ بيتنا والبساتين . بكينا وهربنا مشيا على الأقدام . وفي الطريق سمعنا صهيلاً كأنه غناء . ورأينا « العربي « يلحق بنا وله جناحان طويلان .
قال الحصان :
_ إركبوا أيها الناس .
_ ركبي مع الكبير والصغير على صهوة الحصان العالية .وقبلت جناحه الطويل وهو يعدو بنا للأمان ويعدنا بالعودة للمكان .
_وبعدين وين راح « لحصان العربي الأصيل يا ثتي «؟…


وليد سليمان

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment