تنطلق هذه القراءة من هاجسين أساسيين: أولهما كيفية اشتغال النص بعامة والنص القصصي تحديداً، وقدرته على توليد الدلالة من المكان، بإنشاء نظام يتخذ له موقعاً ضمن جملة من الأنساق المحيطة به.
إن النص -هذا المصنوع- لا يفتأ يتشكل ويتحول ويبعث على الحيرة والتساؤل، وهو في حالاته كلها ما إن يوجد حتى يعني. فهل النظام الذي يتراءى لنا فيه قد وضعته الكاتبة قصداً أم استنبطه القارئ استنباطاً؟
أما الهاجس الثاني فمداره منظومة القيم الفكرية الاجتماعية والسياسية التي نعيش في خضمها. فما موقعنا من حركة التاريخ؟ وما موقعنا من التحولات التي تهزّ عالمنا هزّاً؟ وهل بإمكاننا ان نعيش في توقعاتنا بمعزل عمّا يحدث لنا؟ وماذا يتعين علينا أن نفعل إن أردنا ألا نعيش على فتات الحضارة؟
والحق أننا لا نواجه هذه الأسئلة في منفسح من الفضاء، وإنما نواجهها في ركن محدد هو الإبداع وعلاقاته بهذه القيم الكونية التي أخذت تؤسس المجال الثقافي الإنساني الجديد.
من خلال هذين الهاجسين يمكن الدخول إلى عالم د.عايدة النجّار عبر عملها القصصي الأخير « عزّوز يغنّي للحب: قصص فلسطينية من ألف قصة وقصة».
حين ندخل هذه القصص يشدنا إليها التداخل بين الأشكال والرؤى والأساليب والنصوص. ومن هذا التداخل تتسلل إلينا فكرة الحداثة بما هي نقيض للسكون والتسليم، وتجسيد للتحول المستمّر، وبحث دؤوب عن مَثَلٍ أعلى لا يتحقق في حيّز زمني أو مكاني محدّد، وإنما هي توق متجدد أبداً ومساءلة لا تتوقف.
توحّد الرؤية، شأن القص، بين الكتابة والحياة. فلا يكفي أن نكتب القص، مثلاً، وإنما يجب أن نحياه. وهو موقف يُرَدُّ به على الفصل بينهما وفق المقولة التي كانت وما زالت سائدةً «الفن من أجل الفن». إذ يطالعنا هذا الصوت القصصي الرؤيوي:
«سمع أهل حيفا صوتاً متقطعاً يرتفع من مقبرة الشيخ المحاذية للمدينة.
– من الذي يعتدي على غفوتي؟
– أنا عزّ الدين القسّام زعيم ثورة الفلاحين المهمشين. نمتُ وصحبي على زغاريد النساء وأهازيج الشباب. قال مشّيعونا إننا شهداء ولسنا أشقياء كما قال الأعداء» (ص15).
تلك القصة «صيحة المقابر»، لا تريد أن تقدم لنا منظوراً واحداً نكتشف منه هذا العالم، بل تحرص القاصة عايدة النجار على زجّنا معها لنطل على هذا العالم من زوايا متعددة ومن خلال أصوات متنوعة. إنها لا تتوقف في موقع واحد، إنما تتحرك وتتنقل، ولهذا جعلت عنوان مجموعتها «عزوز يغني للحب: قصص فلسطينية من ألف قصة وقصة».
هذه الرغبة في التنقل هي التي تفسر لنا أن الشخصية المتكلّفة ترى نفسها أحياناً:
«نحن النائمون في مقبرة ماميلا في القدس منذ آلاف السنين نشكو من وجع خلخلة عظامنا من الطين» (ص15-16).
والسؤال هنا: كيف تضعنا القاصة أمام مشهد صوري قصصي؟! كيف يكون المتكلم ممثلاً ومشاهداً في آن واحد؟ وكيف يكون راوياً عاقلاً وبطلاً ثائراً في الوقت نفسه؟
صور هذا الانشطار في قصص عايدة النجار مختزلة، إذ هي لا تطلب البساطة والوضوح، وإنّما تسعى إلى التقنع والمداورة. وذلك كان التبئير في هذا النص متحوّلاً، بين خارجي وداخلي، وبين فردي وجماعي، وبين هذه الشخصية وتلك. ومن خلال هذه التماسّات تسنّ القصص طريقها إلى الحداثة.
كانت أولية العالم الداخلي على العالم الواقعي من المسلَّمات عند عايدة، وكانت قصصها تحمل أبعاداً فلسفية وملحمية الطابع، يومي بما هو تأملي وأسطوري:
«نحن رفات 70 ألفاً من جنود صلاح الدين محرر القدس للعرب والمسلمين. عظامنا تحشر في الصناديق، لا نعرف أين المصير، للحرق أم للتخزين؟
يبنون مكاننا (متحف التسامح) قناعاً للحقد، ويزورون التاريخ» (ص16).
لعبت الرمزية التاريخية هنا، دوراً كبيراً، واستناداً إلى ذلك، تأسس مفهوم المطابقة عند القاصة بين المرئي واللامرئي. ومارست الكاتبة دور الرائي، كما مارست كيمياء الكلمة انطلاقاً من أن الكتابة القصصية هي نفسها وسيلة لتغيير الإنسان، إذ كيف يعيش القاص قصة إذا لم يدعو لابتكار الحياة؟
«تغيير الحياة».. ذلك ما أخذته وتمسكت به. لذا لا تحتكم نصوص النجار القصصية إلى رؤية واحدة، وإنما تنطوي على مجموعة من الرؤى وتستحضر شخضيات قصصية مختلفة في عصور متنوعة وأمكنة متعددة ومن أجناس متباعدة. وكان بإمكان الكاتبة ألا تنقل ما نُقل، وألا تحدد مصادرها، لكنّها أرادت أن تجعل قصصها كشكولاً تلتقي فيه شذرات بعضها طارف وبعضها تليد، فجمعت فيها الأخبار الأدبية والأخبار التاريخية والرحلات والتراجم.
والمفارقة أن هذه الكثرة من النصوص القصصية تضامت وألّفت نصّاً قوياً لا يمكن أن يخلط المرءُ بينه وبين أي من النصوص الأخرى التي دخلت في نسيجه.
والناظر في المكان القصصي يجد علامات مكانية صريحة تحدثنا عن فلسطين وقراها، ولكن الغالب الأعم أن يُترك المكان ملفوفاً في إهاب الغموض. فالفلسطيني يُحدثنا عن القرية، وعن المدينة، وعن الأرض الزراعية، وعن البلاد، وهذا النزوع إلى التعميم يطالعنا منذ بداية القصص حين قدّم لنا الفلسطيني أهم الشخصيات:
«الشيخ غالب يمسك يد حفيده أحمد ابن العاشرة، يعتصرها بحب، امتناناً على تعزيز اتكائه على عصاه..
الشيخ والفتى يسلكان طريقاً وعرة تنمو فيها أشواك الخرفيش التي تعكر صفو الهِندبة والخبيزة والزعتر الخائفة من الشوك المجنون الذي يلبس طقية ليلكية» (ص61).
بهذا، فإن المكان يتحدّد ويتنوع، لكنّه في أغلب الأحيان يتأبى على التحنيط ويرفض أشكال التقييد. وهنا تتألق نهاية القصص إذ نجد قرى فلسطين تنتظر العودة:
«اسمي أحمد الفلسطيني ابن أحمد ونعيمة.
وُلِدتُ بعد آلاف السنين من بلدي فلسطين» (ص60).
أما عن عناوين القصص، فإنها تكشف عن عدد من مرتكزات هذا الجنس القصصي الجديد، فالعناوين تقدم لنا أحد مفاتيح التلقّي المهمة. إذ يلجأ النص إلى عناوين تذكّرنا بعناوين النصوص القصصية الشجية القديمة مثل: «خليلي يا عنب» و «عن الميرامية سأحكي» و «العين العسلية». وهي عناوين تعتمد المنحى التلخيصي الذي يقدم لنا خلاصة ما يدور في القصة.
وينهض هذا النوع من العناوين بوظائف عدة، أولاها إجهاض التوقع واستباق الحداث، إذ يلخّص لنا العنوان جلَّ ما تنطوي عليه القصة، ويستبق أبرز احداثه. والثانية: التقليل من شأن عنصر التشويق من دون الإجهاز عليه، لأن النص يريد من قارئه أن يلتقي مع جوانب أخرى فيه. والثالثة أنه يوحي للقارئ منذ البداية بأن ثمة بنية جدلية تسعى لإبراز استقلالية كل قصة، أو بالأحرى كل حكاية. والرابعة: أنه يريد من القارئ بعد هذا كله أن يدخل عالمه التوصيفي منذ اللحظات الأولى، فهو عالم حكايات قبل أي شيء آخر.
تكشف لنا هذه المجموعة القصصية عن نضج فني واحتشاد أدبي كبير. كما تنم عن ثقافة واسعة بالتراث الشعبي الفلسطيني. فهي لا تنقل عنه، أو تتقمصه، أو تحاكي لغته، وإنما تستوعب بنيته الداخلية وتستلهم أسراره اللغوية لتخلق منها بنية نصها الجميل.
سليم النجار