رغم أن الإقبال الجماهيري يتزايد على البرامج الوثائقية والسينما الوثائقية إلا أننا نغفل الأصل والمنبع الذي انبثقت عنه مثل هذه الفنون التي راجت بسبب تكنولوجيا البث السينمائي والتلفازي وتقنياتها المتطورة.
هذا الأصل هو الأدب الوثائقي الذي أغفلته أيضاً أقلام النقاد، مع أنّ هذا النوع من الكتابة الذي يمزج بين الجانبين الإبداعي والتوثيقي (الحقائق والصور) موجود في ثقافتنا العربية، ومثّل نمطاً إبداعياً يجمع الجمالي والتاريخي بمزيج لا يتمكن منه إلا مبدع حقيقي، وهو ما نجده في أعمال الكاتبة د.عايدة النجار التي أظهرت قدرة خاصة على قراءَة «الزمان والمكان والإنسان» قراءَة جمالية، قبل القراءة الإنسانية أو التاريخية، كما بدا في عملين إبداعيين لفتا الأنظار، وهما: «بنات عمان أيام زمان» (ذاكرة المدرسة والطريق)، و»القدس والبنت الشلبية».
فإذا كانت الرواية التاريخية، والرواية التسجيلية، ورواية الكولاج الصفحي، وأدب السيرة، أعمال أدبية تقوم على الجانب التوثيقي، فإنّ «الأدب الوثائقي» الذي تكتبه عايدة النجار يجمع بين كل ما سبق (التاريخي، والتسجيلي، والكولاج الصحفي، وأدب السيرة)، إضافة إلى اعتماد واضح على دور الصورة الفوتوغرافية التي تحقق للعمل ميزتَي التوثيق والتشويق.
غير أن هذا النهج الأدبي لا يحصر نفسه بنمط أو إطار واحد، مما يمنح الكاتبة مجالاً رحباً للتحرر من قيود النوع الأدبي، والانطلاق إلى فضاءَات حرة من الكتابة وتدوين سيرة الإنسان والزمان والمكان بطريقة تأملية، تضفي على الواقع التاريخي لمسة تعبيرية ممزوجة بعاطفة خاصة تجاه ذلك كله.
في «بنات عمان أيام زمان» ينساب التاريخ انسياباً وادعاً، هادئاً، لتنقل لنا الكاتبة أنفاس الزمن الجميل (ذاكرة المدرسة والطريق)، والترحال المستمر بين الأماكن والليالي والأيام.. هنا تحرص الكاتبة على أمانة «الذاكرة»، ولكنها تتدخل بانتقائية لغوية ومخيلة جاذبة، ليغدو الحنين منغرساً في تفاصيل السرد ومجرياته، ففي الحديث عن مبنى مدرسة «أروى بنت الحارث» تقول :
«ظلّت خصوصية البناء التراثي حية في الذاكرة، خاصة أرضية الغرف والحوش المزخرفة، بنقوش شرقية جميلة لا أنساها أبداً، وكأنها سجاد مطرز بالحرير الأزرق والأخضر والوردي، والشبابيك تطل على الساحة الصغيرة، التي نراها من خلف الزجاج الملون.. وقعت عيناي على البلاط المزخرف مما جعلني أجد موضوعي الفني الأصيل، فرسمت البلاط الذي أدعس عليه، ونقشت بأقلام الرسم لوحة أعجبت المعلمة التي أعطتني علامة جيدة أسعدتني خاصة عندما قالت لي: أنت مبدعة» (ص17).
فالمكان ليس موضوعاً محايداً، إنه ملهم، ومحرك، وفاعل.. وهذه هي ميزة التفاعل بين عناصر «الأدب الوثائقي» الذي يجعل الخيال يتولد من الحقيقة، دون أن تنسى الكاتبة فعل الإنسان داخل المكان والزمان، مع التركيز على «حكايا» البنات، تلك التي كانت بمثابة البطل الذي يشارك الكاتبة (الراوية) صناعة الأحداث:
«وكان رمي الكتاب أو القلم تحت كرسي الباص، والانحناء لالتقاطه وسيلة أخرى تمكن البنت أو الولد من تبادل النظرات، وكان البعض يسرّب رسالة أو عبارة مكتوبة دون لفت النظر من ركّاب الباص أو العزّال» (ص50).
وهكذا تتزاحم الذكريات والأحداث، لتبدو عمان، بشوارعها ومدارسها ومخيماتها، وحاراتها ومحالها وأدراجها، وروحها.. بل وامتداداتها باتجاه مدن أخرى…، لتكون «الزرقاء» صورة للتنوع والاختلاف عند المقارنة بالعاصمة:
«كانت الزيارة للزرقاء متعة لم تُنْسَ، وظلتّ بنات صفّي يتذكرن رحلة قمن بها بدعوة مني للزرقاء، وكان للبعض تجارب جديدة.. والشارع المؤدي إلى مدخل المدينة تصطف فيه أشجار السرو الطويلة على الجانبين كأنها ضباط يرحّبون بالزوار الذين يدخلون المدينة في الطريق لمعسكر الجيش الشهير» (ص61).
ومع جمال الإحساس بالحدث والمكان، لا بد للمخيلة من مسح جميع أنواع المشاعر ووضعها في الصورة، سلباً وإيجاباَ:
«كان لمدخل المكان أيضاً خصوصية مؤلمة بسبب مخيم اللاجئين الفلسطينيين الكبير في المدينة، والقريب من سينما النصر.. فهذا المكان يبعث على الأسى والألم للحالة الاجتماعية البائسة التي يعيشها اللاجئون. وقد تركوا بيوتهم الحجرية الجميلة، والبيارات المزروعة بالبرتقال، والحواكير المزروعة بأشجار التين والزيتون والكرمة، كما تركوا أثاث البيوت والتراث ومظاهر الحضارة التي كانوا يعيشونها قبل النكبة عام 1948، تلك الحضارة التي لم تذب ولم تندثر في أي مجتمع حلّوا به» (ص61).
ويمضي بنا السرد متأرجحاً بين المخيلة والوثيقة، بلغة لينة مطواعة، كسيل يتدفق بتناغم وهدوء، يسحب القارئ شيئاً فشيئاً ليكمل الحكاية… حكاية المدن والشوارع، حكاية المدارس والدروس والمعلمات والزميلات، حكاية الأنشطة والمراهقين والمراهقات… بحياتهم المفعمة بالأحداث، الجادة والهازلة، قصصهم وأشعارهم.. كل ذلك حاضر في العمل، ممزوجاً بالصور وقصاصات الصحف، مما يعمق النهج التوثيقي المصاحب للسرد.. وبطبيعة الحال لا يمكن لأديبة، بعمل أدبي كهذا، أن تغفل دور مثيلاتها الفتيات الأديبات لتعقد فصلاً مهماً عن «أديبات وصحفيات صغيرات» وتتحدث عن دورهن في تحبير صفحات الصحف التي ظهرت آنذاك:
«وإقبالهن على ما يسمى (أدب الأوتوغراف)، وهو بمثابة بذرة لـ (الأدب النسائي) باتجاه معيّن، وقد حافظت بعض الطالبات على الأوتوغراف لأكثر من خمسين سنة، تحنّ عند قراءَة ما جاء بين السطور لأيام المدرسة في مرحلة هي الأجمل» (ص186).
وهذا الأدب يمتاز بعاطفة جياشة، ومخيلة عميقة:
«ما الحياة إلا بسمة جميلة، وزورق يتهادى على صفحة الآمال، وزهرة يافعة في رياض الشباب» (ص186).
وتشير الكاتبة إلى جانب سريّ في هذا النمط (أدب الأوتوغراف) بما يشبه «أدب الاعتراف»، إضافة إلى احتفائها بمشاركات وطنية وسياسية كانت تقوم بها البنات مما لا نجد توثيقاً له في التاريخ الرسمي في أغلب الأحيان، ولا سيما المظاهرات، رغم أنها كانت تظهر صورة الفتاة «تبدو للبعض وكأنها تتحدى العادات والتقاليد العتيقة التي تقيّد حركة المرأة وانطلاقها بشكل يتناسب مع الحراك اللاجتماعي والسياسي الذي كان يسير بشكل متسارع في الأردن، وتحمست طالبات المدارس الأهلية للمشاركة في المظاهرات، وإن لم تصل الحماسة والنشاط إلى مستوى حماسة ونشاط بنات مدرسة زين الشرف والمدارس الحكومية الأخرى بسبب سياستها الغربية كما كان البعض ينظر إليها» (ص209)، وهذا قاد الكاتبة إلى التركيز على اللحمة المتينة بين الأردن وفلسطين، وخاصة في المناسبات المحزنة والمثيرة للشجن كما في مذبحة «دير ياسين» وما نجم عنها من حكايات.
وإذا انتقلنا إلى متابعة نهج المؤلفة في «الأدب التوثيقي» في كتابها «القدس والبنت الشلبية»، نجد أنها تطور في هذا الأدب لدرجة رصدها ظواهرَ من اللهجات واللغة المحلية، فضلاً عن تكثيف استعمال الصور وتوظيفها لمزيد من التوثيق والتشويق، ويبدو لنا من خلال الجوانب التوثيقية في الكتابين مقدار الجهد المبذول وراء جمع كمّ هائل من الصور والوثائق مما تعجز عنه مؤسسة قائمة بحالها، فضلاً عن أن الأدب التوثيقي الذي تبدعه النجار يمتاز بالاهتمام بأدق التفاصيل التي تتحدث عنها، ولا سيما في الحارات:
«النساء في حارات وأحواش بيوتات القدس متنوعة النباتات والأزهار، بعضهن كن يخفين منافسة خفية (….) وذلك بتزيين شبابيك البيوت بالنباتات الخضراء والأزهار لتجميلها، كون القدس القديمة تفتقر إلى مساحات خضراء أو متنزهات خارج السور» (ص19).
ولا شك أن السرد الوثائقي مقيّد بكثير من شروط التوثيق، غير أن عايدة النجار تخرج من هذا الإسار وهذه الأُطر عبر لغتها الأدبية الممزوجة ببساطة التعبير وفصاحته، بعيداً عن جفاف لغة المؤرخ والباحث الاجتماعي، لتضفي على ما تكتبه مسحة أدبية غالبة من خلال تسجيل تفصيلي لسيرة المكان بأدق تفاصيله، مما جعل هذا الكتاب ينطق بجماليات المكان، أو جماليات العمارة، في حديثها عن بعض البيوت والقصور، يضاف إلى ذلك مزجها بين الأدبي والواقعي، وأدب الطبيعة من خلال حديثها عن نباتات القدس والعلاقات بين المدينة والقرية، والحارات، والمخابز، والأطباء، والتراث، والأغاني، والموالد، والمسلمين والمسيحيين.. إلخ.
في حين يُظهر حديثها عن التعليم إلى أي درجة كان هذا الجانب ناهضاً متقدماً في القدس، والوثائق تدعم وتسند أقوالها وحكاياتها، الأمر الذي جعل من «القدس والبنت الشلبية» موسوعة ومصدراً أدبياً ومعرفياً لا غنى عنه حول كل ما سبق، بالإضافة إلى العادات والأفراح والأحزان والأعمال الخيرية التطوعية، وغيرها من الجوانب التي لم يحدثنا عنها التاريخ البتة، والتي تطرقت النجار إليها، مثل «دعوات للسفور»، والمناقشات التي جرت بين الكتاب والصحفيين والشعراء والمفكرين حول «الحجاب» و»الاختلاط».
كما يمثل كتاب «القدس والبنت الشلبية» موسوعة عن الحراك الأدبي والسياسي في القدس، وفيه ذكْر لكثيرٍ من الأسماء، إشارة أو تفصيلاً، مما يدعو للقول إن عايدة النجار تكتب «أدباً وثائقياً» بامتياز، لا بد من الالتفات إليه وتأمُّل قيمته التاريخية والأدبية.
د.عباس عبد الحليم عباس