تتجمع عندي كتب أقرأها على عجل و أضع بعضها جانبا للعودة اليها في الوقت المناسب لقراءة معمقة لأهميتها .وجدت الوقت المناسب والكافي أن أعود لكتاب جاد يبحث في الجغرافيا والتاريخ كما في الالم والأمل لناس تركوا بيوتهم في فلسطين على أمل العودة لمطرح الأباء والاجداد .عدت لكتاب هام أو “وثيقة فريدة من نوعها “ كما وصفها دولة طاهر المصري رئيس مجلس الاعيان الأردني في تقديمه لكتاب د. أيمن جابر حمودة الموسوم ( لكي لا ننسى : بيت دجن / يافا ). وتأتي أهمية الكتاب كونه نتاجا فكريا وإنسانيا وتاريخيا لطبيب مثقف مخلص في مشاعره كما هو مخلص لمهنته الانسانية والمتخصص في أمراض القلب والشرايين . فالكتاب بلا شك مرجع هام للباحثين وأنموذج لكيفية كتابة تاريخ قرى فلسطين المدمرة التي أتت عليها اسرائيل في استعمارها لفلسطين وطرد أهل المكان الأصليين وبخاصة وهي مستمرة في عدوانها وتغيير التاريخ والجغرافيا ببناء المستوطنات كما يحلو لها .
هذه الوثيقة تعيد حياة قرية بيت دجن بعد أن أوقفت إسرائيل نبضات قلبها المتكئ على كتف مدينة يافا . قام الطبيب الذي يعمل في عمان وكأنه يجري عملية قلب مفتوح وشرايين لبيت دجن التي لم يولد فيها ولكنه عاش فيها كل يوم منذ ولادته في خمسينيات القرن الماضي في عمان . يقول : “ أصبحت أرى بيت دجن كما لو أنني أعيش فيها أيام كانت تدب فيها الحياة كل يوم من الفجر الى آخر الليل “ . بهذا يكوّن الطبيب ذاكرة خاصة غنية من ذاكرة وذكريات أهل وناس حافظوا عليها بعد النكبة . هذه الحياة التي عاشها وعرف فيها عن الحياة الاجتماعية بتفاصيلها وعاداتها , رضعها من حليب أمه وترعرع في القرية عن بعد ليصبح طبيبا ملتزما في حبه لها كما مهنته .
في الأبواب العشرة التي وثق فيها الكاتب بيت دجن وصف لنا د. أيمن حمودة القرية قبل أن تدمر وتهجر عام 1948,بكل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والانسانية . حضرنا معه عرسا ونساؤها تلبس ثوب “ الجنة والنار” الجميل الذي لا يزال الأجمل بين الأزياء الشعبية التراثية الفلسطينية التي تحمل الهوية . أدخلنا الطبيب “ الدجني “ البيوت لنأكل مع أهلها المفتول والملتوت والششبرك ونتحلي على الحلاوة النفاشية والعنبر . وجعلنا نتحسر على بلد سرقته إسرائيل والصهيونية بشكل فاضح .فهو لم يهمل التاريخ السياسي الذي سبب النكبة التي حرمته من طفولة يلعب فيها في بيارات بلدته التي يحن أهلها لها . وفي إهدائه يعبر عن حب عميق لأمه وأبيه الذين رأى بيت دجن “ في عيونهم “ التي أحبها . ولكي يظل الحب متواصلا أهدى الكتاب أيضا لأبنائه وزوجته البعيدين عن بيت دجن لتظل حيّة في قلوبهم . ولم ينس أهل المكان الذي ولدوا فيه ولا يزالون يحملون لها الحب العميق .
يعرفك د. حمودة بالبلدة و شوارعها وناسها ليس من الخرائط فحسب , بل من شهادات ستين شخصا من بيت دجن ولدوا وعاشوا بضع سنين من عمرهم فيها حيث نقشت في ذاكرتهم صور لم تنس بعد النكبة . ورث الطبيب المبدع بيت دجن بجذورها التي سقت شرايين قلبه بحبها كما حب أهلها الذين ساعدوه باهدائه ذاكرتهم الحيّة . لقد قام الطبيب بعمل ضخم ومتقن وهام بتأليف هذا الكتاب المرجع لكل من يكتب عن القرى الفلسطينية المدمرة . ولا بد لي من تقديم التقدير لهذا الجهد الكبير للمؤلف الذي وضع هذه الوثيقة لتصبح مرجعا علميا وانسانيا نرجع اليه عندما نكتب عن فلسطين. وأجد أنه كتاب يجب أن يوجد في كل بيت كمرجع للأجيال القادمة لكي لا تنسى . فقراءته متعة وعلم وحافز للتعلم عن معنى حب الوطن . ! يذكر أن الكتاب حاز على أحسن كتاب في الانسانيات من جامعة فيلادلفيا للعام 2012 .