تعترضني وأنا في سيارتي على الشارة الحمراء، طفلة تبلغ من العمر ست سنين . تحمل علبة العلكة، رأسمالها الذي تحاول تحريكه بالبيع السريع وهي تتراكض بين السيارات . اعطيها “صدقة “ فتركض سعيدة للسيارة المجاورة وهكذا حتى تتغير الشارة للأخضر فنتركها كل لمشاريعه . تعود البنت الجميلة الى أمها أو كفيلتها في هذا العمل لتعطيها الغلّة . مشهد يتكرر مرارا، بل بشكل دائم في الشارع .
هذه البنت في سن المدرسة والتعليم الالزامي التي نص عليه قانون التعليم الذي وضع في الاردن منذ العام 1955 , ليصبح مكان كل الاطفال من بنات وأولاد في مكانهم الطبيعي، كانت النتيجة تقليل نسبة الامية التي كانت مرتفعة آنذاك . تطور التعليم وأصبحت نسبة الأمية من أقل النسب في البلدان العربية – أقل من 10% – مع لبنان . وهذا مؤشر جعل الجميع يتفاخر بالمستوى التعليمي العالي في جميع المراحل الدراسية الاساسية والعليا أيضا، رغم الشكوى الدائمة هذه الأيام لما حلّ بالقطاع التعليمي بشكل عام مع القطاعات الاخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية . والتي بلا شك يؤثر بعضها ببعض بشكل متواز .
وللعودة “لابنة الاشارة الخضراء”، فقد عادت لعادتها القديمة بعد موجة الثلج التي لم ترحم الفقراء في بيوتهم من برودة الطقس فكيف بالبنت المحرومة من كل حقوقها الانسانية؟! . . ركضت كعادتها لتبيعني العلكة . كان غضبي كبيرا وأنا اصيح في وجهها، اذهبي لأمك .. وقولي لها أنك تريدين أن تذهبي للمدرسة .. قولي لها أنك مريضة ولا تريدين أن تظلي في الشارع، تركتني وهي تنتفض من البرد . وفي اليوم الثاني ركضت اليّ وكان غضبي أكبر هذه المرة على من ؟ على أمها أو على الحكومة أو على الوضع العام أو على العاالم كله . غضبي على ظلم الانسان للانسان؛ لأن مجتمعنا ليس فيه عدالة . وعندما سألتها عن أمها التي تجلس على بعد من الشارع، ركضت ويبدو أن الأم فهمت الرسالة وشعرت بالخطر وهي المتمرسة بهذه المهنة غير الانسانية، وقلت لها انني ساجلب لها الشرطة . سمعتني البنت وأخذت بالبكاء .. تركت المسرح وقررت أن أغيّر طريقي ,قلت “ لا عين تشوف ولا قلب يحزن . “
بعد أيام عدت للطريق وكانني اشتقت للبنت الصغيرة؛ التي ركضت كالعادة وكنت أحسب أنني لن أرى الأم التي أصبحت مدمنة على مهنة الشحادة ولكن خاب ظني فوجدتها في مجلسها على قارعة الطريق تنتظر حصيلة الطفلة المحرومة من الدفء والحنان والحياة الحقيقية . قلت للبنت حسبت انك دخلت المدرسة، نظرت اليّ بعيون حزينة .. حزينة … حزينة .. وقالت كيف هي المدرسة، خذيني اليها، وكأنها ترجوني . وفي هذه اللحظة المؤلمة خجلت من الطفلة ومن نفسي ولم أدر ما أقول أم أفعل ..بالطبع لن أحملها وأخطفها .. نزلت من السيارة وحاولت التقرب من الام التي ركضت لأرجع للسيارة وقد اصبح لون الشارة أخضر.
نعرف أن وزارة التنمية الاجتماعية لديها برامج ملاحقة مثل هذه المرأة الفقيرة أو غير االفقيرة ومحاربة ظاهرة التسول . خجلت من نفسي لأنني لم أستطع فعل شيء لانقاذ هذه الطفلة المسكينة التي أصبحت تنتظرني على الاشارة من أجل “ الفراطة “ . ولمن يهمه الأمر، شارة الطفلة التي تعمل في نطاقها هي في تقاطع الشارات أمام مؤسسة الاتصالات في الرابية . أقول هذا لكي أتخلص من عقدة ذنب تجتاحني كلما وقفت أمام الشارة . لعل وزارة التنمية التي تبحث عن مثل هذا الأم ، تلتفت لهذه الطفلة التي تسأل كيف هي المدرسة ؟ خذيني إليها .!