انها ”ذكريات” تؤرخ لمرحلة ذهبية مرت بها مدينة عمان في ازدهار الوعي وثقافة مجتمع البنات – الطالبات .. ففي هذا الكتاب مئات من الشخصيات النسائية والرجالية الشهيرة، والكثير من اسماء الاماكن القديمة في عمان.. حيث تأخذنا المؤلفة الدكتورة (عايدة النجار) الى تاريخ من ذكريات عزيزة وحميمة عاشتها ضمن حياة الطالبات والطلاب والمعلمات والعادات والطرق والادراج ومحلات عمان ومدارسها المعروفة مثل مدرسة زين الشرف والكلية العلمية الاسلامية والمطران واروى بنت الحارث وكلية الحسين.. ثم الحديث عن الملابس والاطعمة والزيارات والرحلات والمظاهرات والثقافة والسياسة والامتحانات والرسائل وشقاوة الطلاب والطالبات!!.

تقول المؤلفة د. عايدة النجار في كتابها الصادر حديثاً (بنات عمان ايام زمان – ذاكرة المدرسة والطريق) في الصفحة ”114” ما يلي: ”كلما اجتمعنا ترتفع ضحكات وقهقهات (بنات الصف) وهن يتذكرن (اللهجة) المتعددة والجديدة التي كن يسمعنها من هذا المزيج الانساني والاجتماعي من الطالبات. فقد كانت اللهجة الفلسطينية للبنات الوافدات من القدس ويافا وحيفا ونابلس تميز الواحدة عن الاخرى كما تميزها عن اللهجة الاردنية.. كما ان اللهجة الاردنية وبعضها البدوية التي فيها تشديد على حرف الجيم تدل على المكان الذي ترعرعت الفتاة فيه: عمان او الكرك او السلط، او اللهجة الشامية المميزة تشير لمن أتين من دمشق او حلب، اما الشركسيات فكن يتكلمن باللهجة الاردنية بالاضافة الى لغتهن الخاصة الشركسية التي كثيرا ما التقطت البنات بعض الكلمات ومنها ”تس” أي اجلسي، ”قاقوا” أي تعالي فقد عملت هذه اللهجات المحببة على ربط الجميع برباط الانتماء والمحبة الى ان اخذت بالزوال نسبيا لتصبح اللهجات اكثر تقاربا.

بالاضافة الى التغيير الواضح والسريع في (اللباس) الذي اصبح ينم عن انفتاح اكثر على الحضارة الغربية، ولوحظت موديلات الفساتين وخاصة الاكمام القصيرة، ولم يبق بين بنات المدرسة الا القليلات وبشكل غير منظور ممن يلبسن ”الحجاب” او ”الملاية” وذلك بسبب التحولات الاجتماعية التي حررت المرأة من اللباس التقليدي الذي كان سائدا بين النساء في العقود السابقة.

وفي السنين الاولى من حقبة (الخمسينات) كان وزير التربية والتعليم ”محمد امين الشنقيطي” يحرص على ان تلتزم بنات المدارس باللباس المحتشم، والتقيد بعادات المجتمع، ولبس الاشارب او تغطية الوجه بالاضافة الى لبس الكلسات الثقيلة التي تغطي السيقان، ولم تكن ظاهرة لبس البنطلون تحت المريول المدرسي معروفة آنذاك، هذا بالاضافة الى ان المريول الاسود الذي ينتمي الى الالوان التقليدية يُضفي على البنات ”صفات” الجد ويساهم في جعلهن يبدون اكبر سنا من عمرهن الاصلي.

تقول احدى صديقات المؤلفة: كنت احمل الاشارب لحين الوصول لبداية شارع خرفان بعد تسلق درج (مانكو) واغطي شعري فقط قبل عبور الشارع حيث بيت (المديرة خانم).. ولم تخف البنات من المعلمات اللواتي كن يسكن في الشارع ويشاهدن شقاوة الطالبات والتحايل على لبس الاشارب او تغطية الوجه، وكثيرا ما كانت المعلمات اللواتي يسكن في الشارع: فاليريا شعبان وسعاد ابو الهدى ووداد قسوس شاهدات عيان على شقاوة البنات، وكن امينات على حفظ السر لحماية البنات من القصاص.

وبعد انتقال الطالبات من مدرسة (اروى بنت الحارث) الى مدرسة (زين الشرف الثانوية) اختفى لبس الملاية وغطاء الوجه فيما عدا القلة من الطالبات، ومنهن مثلا: بنات (عبدالله ابو قورة) الذي كان يتمسك بالعادات والتقاليد وبالتعاليم الاسلامية، وهو من مساهمي انشاء (الكلية العلمية الاسلامية)، وقد التزمت ابنتاه عزيزة وخولة بتعاليم الوالد.. لكن خولة تقول: لقد تمردت على والدي نسبيا في اخر سنة في المدرسة عام 1957 والتزمت بتغطية شعري، بينما ظلت عزيزة الاكبر سنا مني تلبس الملاية.


وعند الحديث عن ادراج عمان الشهيرة آنذاك نقرأ في الكتاب صفحة (46) ما يلي:”لم تنس البنات ابدا تلك الادراج، وبشكل خاص ذلك الدرج الطويل الذي يبدو واقفا لا يتعب بينما كن يتعبن وهن يتسلقنه من (شارع المهاجرين) للوصول الى مدرسة اروى بنت الحارث في (جبل خرفان) وكانت الرحلة اليومية طلوعا ونزولا اجبارية لمن كانت تسكن في منطقة (رأس العين).
وضمن الحديث عن درج منكو تقول د. عايدة: ولهذا الدرج ذكريات لدي اذ كنت اتسلقه وانا اعبر الشارع من عند موقف باص (الزرقاء) في (شارع الشابسوغ). كما كان درج سينما الاردن ودرج عصفور قرب المطبعة الوطنية في شارع بسمان معروفة للبنات ليصعدن درج المخفر الذي يوصل الى (قيادة الجيش) المعروفة أيام (جلوب باشا) رئيس اركان الجيش الاردني الذي طرد من الاردن عام (1957).

ولا تنس كيف كانت شقاوة البنات عندما يصلن لموقف الباص مقابل البريد كن يتسكعن ويتفرجن على محلات (كيلوبترا) لحداد وشعشاعة وكان يعرض الملابس الجاهزة المستوردة وادوات التجميل والحرامات والشراشف، وما يخص المنازل.. كما كانت البنات يقفن للفرجة على محلات الدباس بجانبه الذي يبيع الازرار وكلف الخياطة واصحابه إلياس وانضوني الدباس من يافا هاجروا للاردن عام 1947.

واتذكر هذا المحل بشكل خاص حيث كنت اتردد عليه نيابة عن شقيقتي الكبرى (عريفة) لتصليح كلسات النايلون المنسولة التي كانت ترسلها معي للتصليح وكنت آنذاك احلم بلبس الكلسات النايلون في حفلة التخرج المتوقعة في نهاية السنة وبعد النجاح في المترك،.. وكنت اتوقف امام محل (دمياني للنظارات) لصاحبه جون دمياني من يافا، وقد اشتريت اول نظارة لبستها منه. كما كنت اتعامل بشكل دائم مع (مكتبة الاستقلال) المقابلة للبريد حيث موقف باص المدرسة.. ويتذكر (رشيد خلف) ابن صاحب المكتبة: لقد كانت بنات المدرسة تشتري من المكتبة ادوات القرطاسية ويتسابقن لشراء اقلام الحبر الجديدة ماركة (باليكان) المانية الصنع، وايضا (الاتوغراف) الذي كان مرغوبا من البنات.

ولم تنس الصديقات محلا ظل في الذاكرة الملونة، والتي تبعث على انعاش المشاعر وهو محل ابو الحافظ (محل البنك العثماني) الذي كان المكان الوحيد في عمان لبيع الزهور الطازجة النضرة وكثيرا ما اخذت احدى الطالبات وردة او زهرة للمعلمة المفضلة لديها في المدرسة.. ولأن العواطف والمشاعر المتجددة كانت الصبغة المميزة لبنات المدرسة في سن المراهقة، كان درج سينما الاردن احد الادراج التي احبت البنات تسلقها والنزول عليها دون تعب، لانها تؤدي للسينما ولافلام الحب والعواطف والغرام، وكن يتشوقن لمعرفة الافلام المعروضة والتمتع بالقاء النظرات على نجوم السينما المفضلين مثل (شادية وفاتن حمامة وعماد حمدي وفريد شوقي وحش الشاشة)، فحب الاستطلاع هذا كان جزءاً من التخطيط للذهاب لمشاهدة الافلام العاطفية بعد المدرسة والالتقاء بالمعجبين عن بعد، اذ كانت العلاقات بين الجنسين صامتة تتحكم بها العادات والتقاليد المحافظة. فحضور الافلام السينمائية الدرامية او (الغرامية) كانت وسيلة للتنفيس عن العواطف التي يعشنها وهن يشاهدن الافلام بطريقة الاسقاط التي يشعرن بها وكأنها حقيقة.

كانت المشاعر تنتعش ايضا اثناء الرحلة في الباص (رقم 3) الى المدرسة.. فعندما كان الباص يصل للموقف في (شارع الامير محمد) الذي كان يسمى شارع وادي السير مقابل البريد، كانت البنات اللواتي قد تجمعن يتسابقن لأخذ مركز مميز للجلوس على الكراسي الاولى في الباص التي تسمح النظر في المرآة المثبتة امام السائق.. وكانت هذه النظرات المسروقة هي جزء من وسائل الاعجاب الصامت ولم تمنع نظرات سائق الباص الجاحظة من تحدي البنات لها ومواصلة تجول العيون بنظرات لها معنى.. وكان رمي الكتاب او القلم تحت الكرسي والانحناء لالتقاطه وسيلة اخرى تمكن البنت او الولد من تبادل النظرات، وكان البعض يسرب رسالة او عبارة مكتوبة للمرسل اليه دون لفت النظر من ركاب الباص والعزال. ونقطة انطلاق الباص كانت محببة لدى البنات وكأنها مكان اجباري للوقوف فيه. يبدأ الباص بقطع الشارع الى (جبل عمان) ليقف عدة مرات يحمل من ينتظر على الموقف في الجهة اليمنى امام (مقهى النيل) قرب البريد الى طلعة جبل عمان مقابل (معرض الحايك) المشهور لبيع الملابس والازياء الغربية العصرية المستوردة من اوروبا.

هذا ويستمر الباص بالوقوف عدة مرات اخرى حتى يصل الى مبنى (البرلمان) لتنزل البنات والاولاد للعبور للمدرسة.. وكان بعض الاولاد ينزلون وراء البنات قبل الوصول للكلية العلمية الاسلامية المجاورة ليتمكنوا من كسب بعض الوقت الاضافي لوداع صامت لمن كن محط اعجاب سواء كان الاعجاب متبادلاً ام من طرف واحد ام مجهولاً غير معروف.

وبعد… فان الحديث عن هذا الكتاب المدهش واللطيف في ذكر الماضي الجميل وناسه واماكنه العلاقة بينهما والاحداث التي مرت بها مدينة عمان وما يحيط بها من دول حوادث عالمية لهو حديث شيق وطويل ولا يمكن اختصاره هنا في هذه العجالة السريعة جدا.. لذا فان العودة لهذا الكتاب المليء بالمحبة والاصالة والرقي المدني والتقدمي والقومي لامر واجب وهام لانه يسرد علينا ما لم نعرفه او نعطيه أهمية.. انها دعوة للقراءة عن حبنا عمان.

وليد سليمان

المصدر

Leave a Comment

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

Comment