سجّلت الدكتورة عايدة النجّار شهادتها عن قريةٍ من فلسطين، وأضافت ثبتاً إضافيّاً إلى وثائق الحقّ بملكية تلك الأرض، نافيةً بذلك الادّعاء الإستيطانيّ بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب. أفردت النجّار لوائح بأسماء أهل القرية من أفرادٍ وعائلات، نسيجها الاجتماعيّ، والاحتفالات بالأعياد الدينيّة. وقدّمت كشفاً فنّياً حول حجارتها ومواطن جمالها، موقعها وتضاريسها المتنوعة من جبالٍ وتلالٍ ووديانٍ، فأطلق محبّوها عليها من التسميات والأوصاف ما لم تفز به أسرار الجمال.
وأدرجت النجّار تلك القرية على قائمة “القائم – المدمّر”، و “الموجود – المحفور” في التاريخ والهوية، رغماً عن أنف الهدم بغرض التهويد ومحو ذاكرة الوجود السابق له. وسقت زيتونها الضارب في الأرض الكنعانية حكايات قصٍّ وإرواء، ومثلها عن العادات والتقاليد والفلكلور، وأغاني الأعراس والأحزان، وعن التطريز بالخيط والإبرة الكنعانيتين الممتدّتين في أيدي نساء مخيّمات الشتات غرزاً وحياكةً بألوان التراب والخصب والرمز والكوفية، والعديد من تفاصيل اليوميات التي سبقت النكبة وتلتها، مع لمحاتٍ عن انقساماتٍ سياسية خَذَلت، ودماء شهداء بُذلت.
إنها حكايةٌ عن قرية لِفتا، الواقعة في أكناف مدينة القدس، وعلى إحدى تلالها المعلّقة ما بين تربةٍ وسماء، وفي موقعٍ استراتيجيّ يرنو إلى البحر ويحتضن العابرين من قرى مجاورة. لِفتا هي واحدةٌ من بوابات القدس. في الحكاية، تروي د. النجّار عن جدارة أبناء لِفتا في وعيهم المبكر على العمل والكدح والتعلّم والمقاومة، إلى أن يحين الرحيل، من دون أن يلوح طيفٌ لقرار نسيان فلسطين.
وقد تجلى ذلك في أداء الكاتبة التي أهدت الكتاب الى أهل لِفتا، فكتبت: “أهديهم سيرة الأجداد لتظلّ على البال، تحفّزهم للعمل من أجل الحياة والعودة إلى فلسطين في الواقع والخيال” (ص. 13).
إنه كتابٌ – حكايةٌ عن قرية، تشبه جميع قرى فلسطين، وتتشارك المعاناة الواحدة لشعبٍ محاصرٍ بين جرائم الاحتلال الاستيطانيّ وعذابات الشتات.
خُرَيفِيَة قرية، مصدرٌ للتأريخ
“لِفتا يا أصيلة – خُرَيفِيَة قرية” هو عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن “دار السلوى للدراسات والنشر – عمان” (415 صفحة)، من تقديم الدكتورة المؤرخة بيان نويهض الحوت التي طرحت في مقدّمتها سؤالاً – لطالما طرحناه أمام كلّ كتابٍ تأريخيٍّ جديد – فقالت: “ما الجديد الذي يتميز به هذا الكتاب عن سواه؟”. ومنها، نقتطف: “كتبت عايدة النجّار عن الزمان والمكان، كتبت عن التاريخ البعيد والقريب.. تكلمت حروف كتابها باللهجة اللفتاوية.. لم أقرأ في حياتي وصفاً حياً للبيوت وكيف شيّدت، وللحجارة وكيف رُفعت، وللأشكال الهندسية وكيف ُنقشت كما في هذا الكتاب”، لتصل إلى بيت قصيد الكتاب: “القائم على التاريخ الشفويّ بامتياز وعلى البحث التاريخيّ بامتياز”، فتقول بعين المؤرخة: “كان ممكناً للكتاب أن يقتصر على سيرة لفتا وتاريخها وسكانها وكلّ ما يمت لها بصلة، غير أن الكاتبة المبدعة وصاحبة الرسالة أضافت إليه من فكرها وروحها ما جعله كتاباً مرجعياً وحسب، بل كتاباً لا بد من قراءته كي نعرف أن يكون للإنسان وطن وما معنى النكبة” (ص.ص. 16-17).
يقارب هذا التوصيف رأي الكاتب الفلسطينيّ الدكتور ماهر الشريف وتحليله الوارد في تقييمه للتقسيم التقليديّ الشائع للكتابة التاريخيّة إلى مصادر أوليّة ومصادر ثانويّة، فيقول إن المذّكرات تشكّل مصدراً رئيسيّاً وضروريّاً لدراسة تاريخ الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة، فهي تنفخ روحاً إنسانية حيّة في وثائق الأرشيف الجافّة” (ص. 359 من كتاب “طريق الكفاح الى فلسطين – مذكرات القائد الشيوعي محمود الأطرش المغربي 1903-1939” عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة”).
ما بين أيدينا، يجتمع التاريخ الشفوي بالوثائقيّ ممزوجَيْن بعشق فلسطينيّ النكهة، “من أجل حفظ التاريخ ولاسترجاع حياة أهل لفتا الذين صنعوا القرية قبل النكبة. لذلك، قمت باستعمال أسلوب التوثيق الشفهيّ (المقابلات) الذي يُعَدّ من الأساليب البحثية الهامة لتوثيق وحفظ التاريخ والإنسان الذي صنعها” (من ص.ص. 22 و23).
ولكن، السؤال الذي ينحى باتجاه الاستفزاز (معذورين)، يقول: عندما أتى الاحتلال الصهيونيّ إلى أرض فلسطين، هل كان يملك من وثائق ملكية الأرض وحقائق التاريخ ما جعله يستوطن ويصادر ويقيم ويعمل بدأب على تهويد الأرض بعد ما يقارب السبعين عاماً من احتلاله؟ نقصد، هل المزيد من إصدارات الكتب التي تثبّت وثائق الصورة والملكيّة على أهميتها في صراع كهذا، يفي بحقّ الرد وإرجاع الحجر والبشر؟ لماذا لا يُصار إلى تحميل كلّ هذه الوثائق وتقديمها كملفات شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية؟ خاصةً بعد قبول انضمام فلسطين الى عضوية المحكمة المذكورة (محكمة لاهاي) في الأول من نيسان 2015 الماضي، وخاصة أن الكاتبة عن لِفتا رأت أن تدمير الإسرائيلي لـ “531 قرية و11 حيّاً مدنيّاً أخلي سكّانه تعتبر في القانون الدوليّ جريمة ضد الإنسانية” (ص. 43). كيف يمكن تسخير معطيات الأرض وأماكن الوجع والمقاومة فيها، فلا تبقى وثائقنا حبراً في الأدراج، أو مُثارة عبر وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي تزيلها تراكمات روزنامة الأيام والأحداث المتسارعة.. وكي لا نبقى أمام أطلالٍ نبكيها في ذكرى حبيب ومنزل.
لم نرغب من تلك الأسئلة التهوين من أهمية المضمون، لأننا نوافق الكاتبة لمّا ذكرت أن “الكتابة عن أيّ جزء من فلسطين هو واجب وطني” (ص. 22). أضف أننا لم ننسَ ما جرى للكاتب الراحل إدوارد سعيد يوم استفز بكتابه “خارج المكان” المتضمّن صورة إثبات مقدسيته وعنوان بيته الوالديّ الحملات الإعلامية الصهيونية والغربيّة المؤيّدة لها، ضده. شنّوا الحملات المسعورة لإفشال كينونة انتمائه، ومكان فلسطين ومكانتها، وزمان أهلها وتاريخهم الوجودي. لا بد أن لذلك قوّةً لا نعي نتيجتها بعد.
أسئلة من الكتاب وعنه
بدايةً، من خريطة فلسطين، تستهلّ النجّار حكايتها عن أرض فلسطين وشعبها، وبنية ذاك المجتمع، مروراً بالريف الفلسطيني وقراه، فتشير الى إحصائيات العام 1914 وتوزّع النسب المئوية ما بين السكان اليهود وكانت نسبتهم حينها أقل من 8 في المئة، بينما كان تعداد الفلسطينيين أقل من مليوني نسمة. نعود هنا إلى العامل الديموغرافي وأثره النفسيّ وتأثيره العمليّ، في ظلّ آخر الإحصائيات الحديثة الصادرة عن “جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني” في مدينة رام الله الذي أفاد أن عدد الفلسطينيين في العالم بات أكثر من 12 مليون نسمة من بينهم 6.22 ملايين في فلسطين المحتلّة، يقابلهم العدد نفسه من اليهود في فلسطين المحتلة، أيّ 6.22 ملايين. وماذا يعني هذا العامل الديموغرافي في موازنة الأرقام في لعبة التوازن والغلبة؟
ثم تستطرد النجّار في وصف دقائق لفتا التي تمتلك “تاريخاً اجتماعياً وسياسيّاً مدوّناً في الوثائق العثمانيّة منذ العام 1596” (ص.47). هذه الـ “لفتا” التي “هدمها الإسرائيليون بعد النكبة مباشرة، وبنوا على أنقاضها في حي الشيخ بدر المؤسسات الحكومية الاسرائيلية ومبنى الكينيست”.
ثمّة الكثير من التفاصيل التي أغرقت النجّار فيها مؤلَّفها – عن وجه حق – ولكن ثمة أموراً ليتها لم تتغاضَ عنها، أو تمرّ بها لماماً، تتعلق بانتشار المستوطنات في تلك الفترة التي سبقت النكبة، وتسليم مدينة القدس للبريطانيين في يوم 9 كانون الأول سنة 1917 من قبل رئيس البلدية حسين سليم الحسينيّ وحنا اسكندر اللحام الذي حمل العلم الأبيض إشارة التسليم (الصورة مرفقة في الفصل العاشر). كان من المفيد توضيح هذه اللحظات التاريخيّة في سياقها، وكذلك التوقف عند خفوت صوت الصحافة بعد ثورة 1936 (ص. 319)، وأسباب إحباطها (تشير لبعضها في ص.
351). وهنا، أودّ التذكير بوثيقة نشرتها “مجلة دراسات فلسطينية” في عددها رقم 78 الصادر في ربيع 2009 للدكتور محمود المحارب بعنوان “المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939”. فيها، ترد لائحة بأسماء الصحافيين الذين تواصلوا مع “وكالة التنمية اليهوديّة” وتقاضوا أموالاً مقابل حرف اهتمامات القراء العرب عن الثورة وتركيزهم على قضايا طائفية وفرعيّة. أسئلة شبيهة تصيب وعد بلفور “الذي عرف الناس عنه من المناشير التي حملها الجنود” (ص. 328)، وعن “غدر بريطانيا للعرب والفلسطينيين” (ص. 328)، وعن دور النساء في العمل والمقاومة والتنكّر لاحقاً لهنّ، وعن دور غلوب باشا قائد الجيش البريطاني آنذاك في تجربة الفيلق العربي للقدس الذي ذهب ليواجه قوة الهاغناه إلا أن القتال توقف فجأة دون مواجهة عسكرية” (ص. 365).
إنه جهد فرديّ للدكتورة عايدة النجّار. لكنه، من ماضيه، يترك القارئ/ة مع عناوين راهنة أكثر إلحاحاً: أين نحن اليوم مما نحن عليه حينها؟ وأين فلسطين من مأساتها؟ ما الفرق بين الثورة والهبّة؟ وأين المسار من نقدٍ ذاتيّ لمسيرة تتخبّط بين وعود ووعود، ومن تفاوضٍ أوصلنا إلى سكّينة شابٍ وشابّةٍ باتا يقاومان باللحم الحيّ؟
* صحافية لبنانية
منى سكّرية